خلفهم على الرسل لفظا، وهو يعود على رسل أخرى معنى، فكأنه قال: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين، فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، وهذا فيه بعد. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر، وقال الأفوه الأودي:
* أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته * إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد * * أو بعده كقدار حين تابعه * على الغواية أقوام فقد بادوا * * (أن لا تعبدوا) *: يصح أن تكون أن تفسيرية، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول، أي جاءتهم مخاطبة؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا، والناصبة للمضارع، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا، وفي نحو: * (أن طهرا) *، وكتبت إليه بأن قم، ولا في هذه إلا وجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية، وأن ناصبة للفعل، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف، وقدره الزمخشري: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفا إلا من جنس الجواب، نحو قوله تعالى: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *: أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، وكذلك: * (لو نشاء لجعلناه حطاما) *، لو نشاء جعلناه أجاج) *، * (*) *، * (ولو شاء ربك لآمن) *، * (ولو شاء ربك ما فعلوه) *، * (لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء) *. قال الشاعر:
* فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد * ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد * وقال الراجز:
* واللذ لو شاء لكنت صخرا * أو جبلا أشم مشمخرا * فعلى هذا الذي تقرر، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة، وهو لم يشأ ذلك، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ * (فإنما * بما أرسلتم به كافرون) *: خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان، وغلب الخطاب على الغيبة، نحو قولك: أنت وزيد تقومان. وما مصدرية، أي بإرسالكم، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي، والضمير في به عائد عليه، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال، كان كفرا بالإرسال. وليس قوله: * (بما أرسلتم) * إقرارا بالإرسال، بل هو على سبيل التهكم، أي بما أرسلتم على زعمكم، كما قال فرعون: * (إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون) *.
ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال، فصل بعد ذلك، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين. فقال: * (فأما عاد فاستكبروا) *: أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل، * (بغير الحق) *: أي بغير ما يستحقون. ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم، وهو الاستكبار، وكان فعلا قلبيا، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب، * (وقالوا من أشد منا قوة) *: أي لا أحد أشد منا، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش. فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة، ومع علمهم بآيات الله، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها. ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة، وعبر بالقوة عن القدرة، فكما يقال: الله أقدر منهم، يقال: الله أقوى منهم. فالقدرتان بينهما قدر مشترك، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة.