تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٤٧١
الهدى) *: فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، الدليل عليه قولك: هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها؟ كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه منكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقال سفيان: دعوناهم. وقال ابن زيد: أعلمناهم الهدى من الضلال. وقال ابن عطية: فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى، وإلا فهو بالاختراع الله، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله: * (بما كانوا يكسبون) *. انتهى. والهون: الهوان، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه.. وقرأ ابن مقسم: عذاب الهوان، بفتح الهاء وألف بعد الواو. وقال الزمخشري: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم) وكفى به شاهدا إلا هذه، لكفى بها حجة. انتهى، على عادته في سب أهل السنة. ثم ذكر قريشا بنجاة من آمن واتقى. قيل: وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس.
* (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما) *.
لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور: * (يحشر) * مبنيا للمفعول، * (* وأعداء) * رفعا، وزيد بن علي، ونافع، والأعرج، وأهل المدينة: بالنون أعداء نصبا، وكسر الشين الأعرج؛ وتقدم معنى * (فهم يوزعون) * في النمل، و * (حتى) *: غاية ليحشروا، * (أعداء الله) *: هم الكفار من الأولين والآخرين، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) *: أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها، ولو كان التركيب بغير ما، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر، لأن أداة الشرط ظرف، فالشهادة واقعة فيه لا محالة، وفي الكلام حذف، التقدير: * (حتى إذا ما جاءوها) *، أي النار، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا، * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) * بما اكتسبوا من الجرائم، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم. ففي الحديث: (أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك، وعنك كنت أدافع).
ولما كانت الحواس خمسة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وكان الذوق مندرجا في اللمس، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، وهو ضعيف، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل: هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل: كنى بها عن الفروج. قيل: وعليه أكثر المفسرين، منهم ابن
(٤٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 ... » »»