تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٤٦٥
التفضيل، فأما الآخر فحق أداؤه، نقله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. * (قل * أئنكم * لتكفرون) *: استفهام توبيخ وتشنيع عليهم، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه، ووصف صورة خلق ذلك ومدته، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتبا، وتقدم الكلام في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتب، وتقدم الكلام في أول ما ابتدىء فيه الخلق، وما خلق مرتبا. ومعنى * (فى يومين) *: في مقدار يومين. * (وتجعلون له أندادا) *: أي أشباها وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه. وقال السدي: أكفاء من الرجال يطيعونهم، وتجعلون معطوف على لتكفرون، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ، * (ذالك) * أي موجد الأرض ومخترعها، * (رب العالمين) * من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم.
* (وجعل فيها رواسى) *: إخبار مستأنف، وليس من الصلة في شيء، بل هو معطوف على قوله: * (لتكفرون) *. * (وبارك فيها) *: أكثر فيها خيرها. * (وقدر فيها أقواتها) *: أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت، قاله السدي. وقال قتادة: أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وقال مجاهد: أقواتها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا: خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوت من الملابس والمطاعم والنبات. * (فى أربعة أيام) *: أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقال الزمخشري * (فى أربعة أيام) *، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. انتهى، وهذا كما تقول: بنيت جدار بيتي في يوم، وأكملت جميعه في يومين، أي بالأول.
وقال أبو عبد الله الرازي: ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل. أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال في أربعة أيام سواء، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى. ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق، وكذلك اليومين يقتضيانه، ومتى كان الظرف معدودا، كان العمل في جميعه، إما على سبيل التعميم، نحو: سرت يومين، وقد يكون في بعض كل يوم منها، نحو: تهجدت ليلتين، فاحتمل الاستغراق، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين؛ وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة.
وقرأ الجمهور: سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع: أي هو سواء، وزيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب: بالخفض نعتا لأربعة أيام. قال قتادة والسدي: معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه، فإنه يجده كما قال تعالى. وقال ابن زيد وجماعة: معناه متسو مهيأ. أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به، إذ هم بحال حاجة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: * (للسائلين) *؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين. انتهى، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين.
ولما شرح تخليق الأرض وما فيها، أتبعه بتخليق السماء فقال: * (ثم استوى إلى السماء) *: أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها، والمعنى: إلى خلق السماء. والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخانا. وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فأحدث الله في ذلك سخونة، فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السماوات. وفيه أيضا أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار. قال ابن عطية: هنا لفظ
(٤٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 460 461 462 463 464 465 466 467 468 469 470 ... » »»