فالظلمات تنافي النور وتضاده، والظل والحرور كذلك، والأعمى والبصير ليس كذلك، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى، فلا منافاة إلا من حيث الوصف. والمنافاة بين الظل والحرور دائمة، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد؛ فلما كانت المنافاة أتم، أكد بالتكرار. وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلا للحياة، فيصير محلا للموت. فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، لأن هذين قد يشتركان في إدراك ما، ولا كذلك الحي. والميت يخالف الحي في الحقيقة، لا في الوصف، على ما بين في الحكمة الإلهية. وقدم الأشرف في مثلين، وهو الظل والحر؛ وآخر في مثلين، وهما البصير والنور، ولا يقال لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه. وفي المعنى: والشاعر قد يقدم ويؤخر لأجل السجع والقرآن. المعنى صحيح، واللفظ فصيح، وكانوا قبل المبعث في ضلالة، فكانوا كالعمي، وطريقهم الظلمة. فلما جاء الرسول، واهتدى به قوم، صاروا بصيرين، وطريقهم النور، وقدم ما كان متقدما من المتصف بالكفر، وطريقته على ما كان متأخرا من المتصف بالإيمان وطريقته. ثم لما ذكر المآل والمرجع، قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب، كما جاء: سبقت رحمتي غضبي، فقدم الظل على الحرور.
ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال: * (وما يستوى الاحياء) *: الذين آمنوا بما أنزل الله، * (ولا الاموات) *: الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها. وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر. وأفرد الأعمى والبصير، لأنه قابل الجنس بالجنس، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد. فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به، لا بين الأفراد. وجمعت الظلمات، لأن طرق الكفر متعددة؛ وأفرد النور، لأن التوحيد والحق واحد، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال: الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور. وأما الأحياء والأموات، فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد. انتهى. من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيه بعض تلخيص.
ثم سلى رسوله بقوله: * (إن الله يسمع من يشاء) *: أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان. ولما ذكر أنه * (ما * يستوى الاحياء ولا الاموات) *، قال: * (وما أنت بمسمع من فى القبور) *: أي هؤلاء، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم. فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق، فكذلك هؤلاء، لأنهم أموات القلوب. وقرأ الأشهب، والحسن بمسمع من، على الإضافة؛ والجمهور: بالتنوين. * (إن أنت إلا نذير) *: أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر. فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل. و * (بالحق) *: حال من الفاعل، أي محق. أو من المفعول، أي محقا، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالا بالحق، أي مصحوبا. قال الزمخشري: أو صلة بشير ونذير، فنذير على بشير بالوعد الحق؛ ونذير بالوعيد. انتهى. ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معا، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفا، والتقدير: بالوعد الحق بشيرا، وبالوعيد الحق نذيرا، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه.
* (وإن من أمة إلا * من نذير) *، الأمة: الجماعة الكثيرة، والمعنى: أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة. أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم)، والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين، وأما أن النذارة انقطعت فلا. ولما شرعت آثار النذراة تندرس، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم). وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته. واكتفى بذكر نذير عن بشير، لأنها مشفوعة بها في قوله: * (بشيرا ونذيرا) *، فدل ذلك على أنه مراد، وحذف للدلالة عليه. * (وإن يكذبوك) *: مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم)، وتقدم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران. قوله: * (فكيف كان نكير) *، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم