تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٦٨
(قلت): حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق، ثم وبخهم بقوله: أفلا تذكرون، أي: مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة. والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى: * (وإن تعدوا) * وقوله: * (لا تحصوها) * إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى: لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر. ولما ذكر نعما سابقة أخبر أن جميع نعمه لا يطيقون عدها. وأتبع ذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في إبراهيم: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة. وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفا به، وإيذانا في التجاوز عنه. وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون، وضمنه الوعيد لهم، والإخبار بعلمه تعالى. وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم.
وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون، وهي قراءة: مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر، وهبيرة، عن عاصم على معنى: قل لهم. وقرأ عاصم في مشهورة: يدعون بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين. وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله: يعلم الذي يبدون وما يكتمون، وتدعون بالتاء من فوق في الثلاثة.
وقرأ طلحة: ما يخفون وما يعلنون، وتدعون بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير، لا على أنها قرآن. ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره، نص على أن آلهتهم لا تخلق، وعلى أنها مخلوقة. وأخبر أنهم أموات. وأكد ذلك بقوله: غير أحياء، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم، فضلا عن العلم الذي تتصف به العقلاء. وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية، وقرأ محمد اليماني: يدعون بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول، والظاهر أن قوله: وهم يخلقون، أي: الله أنشأهم واخترعهم. وقال الزمخشري: ووجه آخر وهو أن يكون المعنى: أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز من عبدتهم انتهى. وأموات خبر مبتدأ محذوف أي: هم أموات. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والظاهر أن هذه كلها مما حدث به عن الأصنام، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. وقيل: معنى بعثها إثارتها، كما تقول: بعثت النائم من نومه إذ نبهته، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي: وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك، ونفى عنهم الحياة لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطق التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها. وقيل: والذين تدعون، هم الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم. وأموت أي: لا بد لهم من الموت، وغير أحياء أي: غير باق حياتهم، وما يشعرون أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. وجوزوا في قراءة: والذين يدعون، بالياء من تحت أن يكون قوله: أو موت، يراد به الكفار الذين ضميرهم في: يدعون، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال. غير مهتدين وما بعده عائد عليهم، والبعث الحشر من قبورهم. وقيل: في هذا التقدير وعيد أي: أيان يبعثون إلى التعذيب. وقيل: الضمير في وما يشعرون، للأصنام وفي: يبعثون، لعبدتها. أي: لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها. وفيه تهكم بالمشركين، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم. وتلخص من هذه الأقوال أن تكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة، أما الأصنام، وأما الملائكة، أو يكون من قوله: أموات إلى آخره (سقط: إخبارا عن الكفار، أيكون وما يشعرون أيان يبعثون فقط إخبارا عن الكفار، أو يكون وما
(٤٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 463 464 465 466 467 468 469 470 471 472 473 ... » »»