تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٧١
هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. ومن القواعد لابتداء الغاية أي: أتاهم أمر الله من جهة القواعد. وقالت فرقة: المراد بقوله: فخر عليهم السقف من فوقهم. جاءهم العذاب من قبل السماء التي هي فوقهم، وقاله ابن عباس. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. قال ابن عطية: وهذا ينجر إلى اللغز. ومعنى قوله: من فوقهم، رفع الاحتمال في قوله: فخر عليهم السقف، فإنك تقول: انهدم على فلان بناؤه وليس تحته، كما تقول: انفسد عليه، وقوله: من فوقه، ألزم أنهم كانوا تحته انتهى. وهذا الذي قاله ابن الأعرابي قال: يعلمك أنهم كانوا جالسين تحته، والعرب تقول: خر علينا سقف، ووقع علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه. وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله من فوقهم ليخرج هذا الذي في كلام العرب فقال: من فوقهم، أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، فأتاهم العذاب. قال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك بها نمروذ، وقيل: من حيث لا يشعرون، من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقرأ الجمهور: بنيانهم، وقرأت فرقة بنيتهم. وقرأ جعفر: بيتهم، والضحاك: بيوتهم.
وقرأ الجمهور: السقف مفردا، والأعرج السقف بضمتين وزيد بن علي ومجاهد، بضم السين فقط. وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في وبالنجم. وقرأت فرقة: السقف بفتح السين وضم القاف، وهي لغة في السقف، ولعل السقف مخفف منعه، ولكنه كثر استعماله كما قالوا في رجل رجل وهي لغة تميمية. ولما ذكر تعالى ما حل بهم في دار الدنيا، ذكر ما يحل بهم في الآخرة. ويخزيهم: يعم جميع المكاره التي تحل بهم، ويقتضي ذلك إدخالهم النار كقوله: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * أي أهنته كل الإهانة. وجمع بين الإهانة بالفعل، والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في قوله: يخزيهم. ويقول: أين شركائي، أضاف تعالى الشركاء إليه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة، والمعنى: شركائي في زعمكم، إذ أضاف على الاستهزاء. وقرأ الجمهور: شركائي ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك: تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين. والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه: مقصورا وفتح الياء هنا خاصة. وروي عنه: ترك الهمز في القصص والعمل على الهمز فيه وقصر الممدود، وذكروا أنه من ضرورة الشعر، ولا ينبغي ذلك لثبوته في هذه القراءة، فيجوز قليلا في الكلام. والمشاقة: المفاداة والمخاصمة للمؤمنين. وقرأ الجمهور: تشاقون بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة. وقرأت فرقة: بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والذين أوتوا العلم، عام فيمن أوتي العلم من الأنبياء، وعلماء أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم، وينكرون عليهم. وقيل: هم الملائكة، وقاله ابن عباس. وقيل: الحفظة من الملائكة. وقيل: من حضر الموقف من ملك وأنسي، وغير ذلك. وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون انتهى. ويقول أهل العلم: شماتة بالكفار وتسميعا لهم، وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم) * تقدم تفسيره في سورة النساء. والظاهر أن الذين صفة للكافرين، فيكون ذلك داخلا في القول. فإن كان القول يوم القيامة فيكون تتوفاهم حكاية حال ماضية، وإن كان القول في الدنيا لما أخبر تعالى أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول لهم ما يقول قال أهل العلم: إذا أخبر الله تعالى بذلك أن الخزي اليوم الذي أخبر الله أنه يخزيهم فيه، فيكون تتوفاهم على بابها. ويشمل من حيث المعنى من توفته، ومن تتوفاه. ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوبا على الذم، فاحتمل أن يكون مقولا لأهل العلم، واحتمل أن يكون غير مقول، بل من إخبار الله تعالى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله، وخبره في قوله: فألقوا السلم، فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا انتهى. وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، فإنه يجيز: زيد فقام، أي قام. ولا يتوهم أن الفاء هي الداخلة
(٤٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 ... » »»