تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٠
من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى.
* (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * تقدم تفسير نظير هذه الجملة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.
* (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) * ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة. والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار، شبه النفاق به. وقال قتادة: الوليجة الخيانة. وقال الضحاك: الخديعة. وقال عطاء: الأوداء. وقال الحسن: الكفر والنفاق. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف. وقال عبادة بن صفوان الغنوي:
* ولائجهم في كل مبدي ومحضر * إلى كل من يرجى ومن يتخوف * وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال، والمعنى: لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) * ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار.
* (والله خبير بما تعملون) * قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتا.
* (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر) * قرأ ابن السميفع: أن يعمروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق علي يوبخ العباس، فقال الرسول: واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تظهرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم. ومعنى ما كان للمشركين: أي بالحق الواجب، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب. وقال الزمخشري: أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم: فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه، أو رفع بنائه، وإصلاح ما تهدم منه، أو التعبد فيه، والطواف به. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: * (وعمارة المسجد الحرام) * أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أن كل مكان منه مسجد، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد. ويحتمل أن يراد الجمع، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو
(٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 ... » »»