تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣١٢
والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله، انتهى.
وتكلم في قوله * (مسخرات بأمره) * كلاما كثيرا هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال: أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها، وقيل * (بأمره) * أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * وقوله * (إنما قولنا لشىء) *. وقيل الأمر هو الكلام.
* (ألا له الخلق والامر) * لما تقدم ذكر خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه، وقيل: الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره: الآية رد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعين حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه، وقال الشعبي: الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة.
* (تبارك الله رب العالمين) * أي علا وعظم ولما تقدم * (إن ربكم الله) * صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء * (العالمين) * أعم من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم.
2 (* (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا فى الا رض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين) *)) 2 * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * الظاهر أن الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء، وقال الزجاج: المعنى اعبدوا وانتصب * (تضرعا وخفية) * على الحال أي متضرعين ومخفين أو ذوي تضرع واختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح (إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا) وكان الصحابة حين أخبرهم الرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقرونا بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك ادعى للإجابة وأبعد عن الرياء والدعاء خفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى الله على زكريا عليه السلام فقال: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * وفي الحديث (خير الذكر الخفي) وقواعد الشريعة مقررة أن السر فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر. قال الحسن: أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم إذكارا لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداما يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدونونها في أسفار ويحضون على ترك
(٣١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 307 308 309 310 311 312 313 314 315 316 317 ... » »»