تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢٠٩
لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله (لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن) لأن العقل حينئذ يكون مغلوبا أو مسلوبا. ومن في قوله: من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدئ التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خص بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله: فأولئك * (عسى الله أن يتوب عليهم) *.
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيسا. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو: مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو باردا، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسما وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس.
فأولئك يتوب الله عليهم، لما ذكر تعالى أن قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقا التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثاني عليهم، ففسر كل بما يناسبه. ولما ضمن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال: يعطف عليهم. وفي علي الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله: إنما التوبة على الله لهم؟ (قلت): قوله: إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبد الوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم: إن الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك. وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه: إن قوله: إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم. وكان الله عليما حكيما. أي عليما بمن يطيع ويعصى، حكيما أي: يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.
* (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار) * نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول: كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري: سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أن الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أوان التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظريا، فإذا صار العلم بالله ضروريا سقط التكليف. وأهل الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون: إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»