تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ١٩٧
الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن، قال: لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى: * (ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) *، * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) *، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظا إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث، ألا ترى قوله تعالى: * (فقلت استغفروا ربكم) *، * (وإن لوطا * استقاموا على الطريقة) *، * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا) *، * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) *، الآيات.
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهيا عنه لفظا. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى: * (ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *. وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها) * وقال تعالى: * (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه * وقال * تعالى * والارض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم * إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا) *، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: * (إنما نحن مصلحون) *، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها: قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: * (ألا إنهم هم المفسدون ولاكن لا يشعرون) *.
(١٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 192 193 194 195 196 197 198 199 200 201 202 ... » »»