إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله: (أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله: (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله: (بالله) إقرار بأمرين: أحدهما: بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني: أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) وهذه الحالة تحصل عند قوله: (أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقا في نور جلال الحق شاهد قوله: (قل الله ثم ذرهم) فعند ذلك يقول: (أعوذ بالله).
النكتة الثانية: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال.
النكتة الثالثة: أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له: الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة الرابعة: أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة.