تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٧٢
من القوة إلى الفعل يسيرا يسيرا، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيها بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة، وأيضا ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستول على عالم الأجسام، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى: * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة.
ثم ههنا دقيقة، وهي أن قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحدا إلا الله تعالى؛ لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجئ إلا إلى الله، ولم يعول إلا على الله، فلا جرم يقول: (أعوذ بالله) و (أعوذ من الله بالله) كما قال عليه السلام " وأعوذ بك منك " واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلا أيضا بغير الله لأن الاستعاذة لا بد وأن تكون لطلب أو لهرب، وذلك اشتغال بغير الله تعالى، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضا عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقا في نور قوله: (بسم الله) ألا ترى أنه عليه السلام لما قال: " وأعوذ بك منك " ترقى عن هذا المقام فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك ". المستعيذ:
الركن الثالث من أركان هذا الباب: المستعيذ: واعلم أن قوله (أعوذ بالله) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك، وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله، فالأول: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * (هود: 47) فعند هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى: * (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) * (هود: 48) والثاني: حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال: * (معاذ الله أنه ربي أحسن مثواي) * (يوسف: 23) فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال: * (لنصرف عنه السوء والفحشاء) * (يوسف: 24) والثالث: قيل له: * (خذ أحدنا مكانه) * (يوسف: 78) فقال: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * (يوسف: 79) فأكرمه الله تعالى بقوله: * (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) *، (يوسف: 100) الرابع: حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة
(٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 ... » »»