ان القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول: ذلك الحد الأوسط إن كان حاضرا في عقله كان القياس منعقدا والنتيجة لازمة. فحينئذ لا يكون العقل متوقفا في تلك القضية بل يكون جاز ما بها، وقد فرضناه متوقفا فيها، هذا خلف، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه؟ أو لا يمكنه طلبه، والأول باطل، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذ يكون عاجزا عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة.
الحجة الرابعة: أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضا كذلك ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الحجة الخامسة: أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان: أحدهما: اللذات الحسية. والثاني: اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذ كان عديم الشعور