تفسير الثعلبي - الثعلبي - ج ٦ - الصفحة ١٥٤
إذ اختطفوه، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران، فجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عز وجل، ثم قال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ علي اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا تواثقنا (لنكونن معا) لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله (ف) فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا على ألا نفترق في حياة ولا موت، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين: أرموس وأسطيوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق، فنظرا إليه وعجبا منه ثم قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما: فمن أنت؟ فقال له: أما ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له: فمن أبوك (ومن) يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه، ولا أباه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبرنا بالحق. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكن يحمق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمئة سنة، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شرط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها، وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت.
فلما قال له ذلك، قال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتم ما عندي. قالوا له: سل، ما نكتمك شيئا. فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له: ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض، ولم يكن إلا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل،
(١٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 ... » »»