حكى الله تعالى في هذه الآية قصة نوح وقومه بأوجز لفظ وأبلغه، وبلوغ الغاية التي لا تدانيها بلاغة ولا تقاربها فصاحة، لان قوله " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " اخبار منه عن إذهاب الماء عن وجه الأرض في أوجز مدة فجرى ذلك مجرى ان قال لها ابلعي فبلعت. والبلع في اللغة انتزاع الشئ من الحلق إلى الجوف، فكانت الأرض تبلع الماء هكذا حتى صار في بطنها الغراء، يقال: بلعت وبلعت بفتح اللام وكسرها. وقوله " ويا سماء اقلعي " اخبار أيضا عن اقشاع السحاب، وقطع المطر في أسرع وقت، فكأنه قال لها اقلعي فأقلعت. والاقلاع إذهاب الشئ من أصله حتى لا يبقى منه شئ. وأقلع عن الامر إذا تركه رأسا. وقوله " وغيض الماء " أي أذهب به عن وجه الأرض إلى باطنها، يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا ذهب في الأرض. وقوله " وقضي الامر " معناه أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام والقضاء وقوع الامر على تمام وإحكام. وقوله " واستوت على الجودي " جبل معروف. قال الزجاج بناحية أمد، وقال غيره: بقرب جزيرة الموصل، قال زيد بن عمر بن نفيل:
وقبلنا سبح الجودي والجمد.
وقيل: أرست على الجودي شهرا، وقال قتادة: اهبطوا يوم عاشوراء.
وقوله " وقيل بعدا للقوم الظالمين " معناه أبعدهم الله من الخير بعدا، على وجه الدعاء. ويجوز أن يكون الله تعالى قال لهم ذلك. ويجوز أن يكون المؤمنون دعوا عليهم بذلك، وهو منصوب على المصدر.
وقيل في هذه الآية وجوه كثيرة من عجيب البلاغة: منها انه خرج مخرج الامر على وجه التعظيم من نحو " كن فيكون " (1) لأنه من غير معاناة، ولا