قصد بالتصنيف نصيحة الأمة والأخذ بيدها، لا مجرد التصنيف فحسب، فكانت مصنفاته هادفة، لذا عم نفعها، وذاع صيتها، وعظم أثرها.
واستمر أبو بكر ابن أبي الدنيا، مؤديا لرسالته إلى آخر حياته وظل يبث العلم، ويتصدر لتدريسه، وقد جاوز السبعين من عمره، إذ سمع منه كثير من الطلبة في آخر حياته وحتى السنة التي توفي فيها، أمثال: الختلي عبد الرحمن بن أحمد البغدادي (1) (ت بضع وثلاثين وثلاثمائة)، وابن حرب الجراب إسماعيل بن يعقوب البغدادي البزاز (2) (ت 345 ه).
حزمه ورجولته:
لقد حفظت لنا بعض المصادر صورة مشرقة من صور الحزم والرجولة في شخصية ابن أبي الدنيا فإنه قال مرة: (كنت أودب المكتفي فأقرأته يوما " كتاب الفصيح " فأخطأ، فقرصت خده قرصة شديدة، وانصرفت، فلحقني رشيق الخادم فقال: " يقال لك: ليس من التأديب سماع المكروه. قال: فقلت: سبحان الله أنا لا أسمع المكروه غلامي ولا أمتي، قال: فخرج إلي ومع كاغد، وقال: يقال لك:
صدقت يا أبا بكر، وإذا كان يوم السب تجئ على عادتك. فلما كان يوم السبت جئته، فقلت: يا أيها الأمير، تقول عني ما لم أقل؟ قال: نعم يا مؤدبي من فعل ما لم يجب قيل عنه ما لم يكن " (3).
وفي القصة دلالة صريحة على حزم ابن أبي الدنيا وعدم محاباته لأحد حتى ولو كان ابن أمير المؤمنين. وفيها حرصه الشديد على إفادة طلابه ومتابعتهم، وعدم التهاون في الأمور العلمية، كما فيها ثقة الخليفة المعتضد به وبصدقه، مما دعاه إلى أن يكذب ابنه الأمير المكتفي، فرد لابن أبي الدنيا اعتباره ودعاه إلى مواصلة تأديب ابنه. كما أن فيها منقبة للمعتضد، من رجاحة عقل، وعدل