عمدة القاري - العيني - ج ١٩ - الصفحة ٧٥
في الآية الكريمة، وفي صورة اللعان لأن لفظ اللعن متقدم في الآية، ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس، وقيل: سمي لعانا من اللعن وهو الطرد والإبعاد، لأن كلا منهما يبعد عن صاحبه ويحرم النكاح بينهما على التأبيد، بخلاف المطلق وغيره، وكانت قصة اللعان في شعبان سنة تسع من الهجرة، وممن نقله القاضي عن الطبري.
واختلف العلماء في سبب نزول آية اللعان: هل هو بسبب عويمر العجلاني أم بسبب هلال بن أمية؟ فقال بعضهم: بسبب عويمر العجلاني. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك، وقال جمهور العلماء: سبب نزولها قصة هلال، قال: وكان أول رجل لاعن في الإسلام، وجمع الداودي بينهما باحتمال كونهما في وقت فنزل القرآن فيهما، أو يكون أحدهما وهما. وقال الماوردي: النقل فيهما مشتبه مختلف، وقال ابن الصباغ: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا، وأما قوله عليه الصلاة والسلام، لعويمر: إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك، فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس، وقال النووي: لعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما، وسبق هلال باللعان فيصدق أنها نزلت في ذا وذاك. قلت: هذا مثل جواب الداودي بالوجه الأول وهو الأوجه فإن قلت: جاء في حديث أنس بن مالك: هلال بن أمية، وفي حديث ابن عباس: لاعن بين العجلاني وامرأته، وفي حديث عبد الله بن مسعود: وكان رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاعن امرأته. قلت: لا اختلاف في ذلك لأن العجلاني هو عويمر، وكذا في قول ابن مسعود: وكان رجلا.
قوله: (فتلاعنا) فيه حذف والتقدير: أنه سأل وقذف امرأته وأنكبرت الزنا وأصر كل واحد منهما على كلامه ثم تلاعنا، والفاء فيه فاء الفصيحة. قوله (إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها)، يفهم من ذلك أن بمجرد اللعان لا تحصل الفرقة على ما نذكره في استنباط الأحكام. قوله: (فكانت)، أي: الملاعنة كانت سنة بالوجه المذكور لمن يأتي بعدهما من المتلاعنين. قوله: (فإن جاءت به) أي: بالولد، (أسحم) بالحاء المهملة: وهو شديد السواد. قوله: (أدعج العينين)، الدعج في العين شدة سوادها، وفي حديث ابن عباس الآتي: أكحل العينين. قوله: (عظيم الأليتين)، بفتح الهمزة: يقال: رجل ألي وامرأة عجزاء، وفي حديث ابن عباس: سابغ الأليتين. قوله: (خدلج الساقين)، الخدلج، بفتح الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وفتح اللام المشددة وبالجيم: العظيم، وساق خدلجة مملوءة. قوله: (أحيمر)، تصغير أحمر، وقال ابن التين: الأحمر الشديد الشقرة. قوله: (وحرة)، بفتح الواو وبالحاء المهملة والراء: وهي دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاءة. قوله: (فكان بعد)، أي: بعد أن جاء الولد (ينسب إلى أمه).
ذكر استنباط الأحكام: وهو على وجوه. الأول: فيه الاستعداد للوقائع قبل وقوعها ليعلم أحكامها. الثاني: فيه الرجوع إلى من له الأمر. الثالث: فيه أداء الأحكام على الظاهر، والله يتولى السرائر. الرابع: فيه كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها لا سيما ما كان فيه هتك سيرة مسلم أو مسلمة أو إشاعة فاحشة على مسلم أو مسلمة.
الخامس: فيه أن العالم يقصد في منزله للسؤال ولا ينتظر به عند تصادفه في المسجد أو الطريق. السادس: اختلف العلماء فيمن قتل رجلا وزعم أنه وجده قد زنا بامرأته، فقال جمهورهم: لا يقتل بل يلزمه القصاص إلا أن تقوم بذلك بينة أو تعترف به ورثة القتيل، والبينة أربعة من عدول الرجال يشهدون على نفس الزنا ويكون القتيل محصنا، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان صادقا فلا شيء عليه، وقال بعض الشافعية: يجب على كل من قتل زانيا محصنا القصاص. السابع: فيه مشروعية اللعان وهو مقتبس من قوله تعالى: * (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) * (النور: 7). وقال أصحابنا: اللعان شهادة مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، وأنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانبها قائم مقام حد الزنا، وقال الشافعي: اللعان إنما كان بلفظ الشهادة مقرونة بالغضب أو اللعن، فكل من كان من أهل الشهادة واليمين كان من أهل اللعان، ومن لا فلا، عندنا وكل من كان من أهل اليمين فهو من أهل اللعان عنده، سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن، ومن لم يكن من أهل الشهادة ولا من أهل اليمين لا يكون من أهل اللعان بالإجماع. الثامن: أن اللعان يكون بحضرة الإمام أو القاضي وبمجمع من الناس، وهو أحد أنواع تغليظ اللعان، وقال النووي: يغلظ اللعان بالزمان والمكان والمجمع، فأما الزمان فبعد العصر، والمكان في أشرف موضع في ذلك البلد، والمجمع طائفة من الناس وأقلهم أربعة، وهل هذه التغليظات واجبة أم مستحبة؟ فيه خلاف عندنا، الأصح الاستحباب.
(٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 ... » »»