عمدة القاري - العيني - ج ١٩ - الصفحة ٣٠٥
بعضهم ولا أدري ما وجه عدوله عن معنى من إلى معنى إلى، بل هذه من البيانية تبين أن ما بدىء به من الوحي كذا وكذا وإلا فدلائل النبوة قبل ذلك ظهرت فيه، مثل: سماعه من بحير الراهب، وسماعه عند بناء الكعبة أشدد عليك إزارك، وتسليم الحجر عليه، فالأول: عند الترمذي من حديث أبي موسى. والثاني: عند البخاري من حديث جابر، الثالث: عند مسلم من حديث جابر بن سمرة. قوله: (الرؤيا الصادقة) ويروى الرؤيا الصالحة، وهي التي لا تكون أضغاثا ولا من تلبيس الشيطان. قوله: (في النوم) تأكيد، وإلا فالرؤيا مختصة بالنوم، وإنما ابتدأ بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تتحملها القوى البشرية فيبدىء بتباشير الكرامة وصدق الرؤيا استئناسا. قوله: (فلق الصبح)، شبه ما جاءه في اليقظة ووجده في الخارج طبقا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه، والفلق الصبح لكنه لما كان استعماله في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام إلى الخاص، وقال الطيبي: للفلق شأن عظيم ولذلك جاء وصفا لله تعالى في قوله: * (فالق الإصباح) * (الأنعام: 69) وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبئ عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة وطلوع تباشير الصبح بظهور سلطان الشمس وإشراقها الآفاق كما أن الرؤيا الصالحة مبشرة تنبىء عن وجود أنوار عالم الغيب وآثار مطالع الهدايات. قوله: (الخلاء) بالمد: المكان الخالي، ويراد به الخلوة، وهو المراد هنا: وإنما حبب إليه الخلاء لأن الخلوة شأن الصالحين ودأب عباد الله العارفين. قوله: (فكان يلحق بغار حراء) كذا في هذه الرواية وفي بدء الوحي تقدم، فكان يخلو، وفي رواية ابن إسحاق: فكان يجاور، وبسطنا الكلام هناك في غار حراء. قوله: (فيتحنث)، بالحاء المهملة ثم النون ثم التاء المثلثة، وقد فسره في الحديث بأنه التعبد. قوله: (الليالي) أطلق الليالي وأريد بها الليالي مع أيامها على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: * (دراهم معدودة) * (يوسف: 2) قيل: يحتمل أن يكون التفسير من قول الزهري: أدرجه في الحديث، وذلك من عادته إذ قول عائشة يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، وقوله: والتحنث التعبد معترض بين كلاميها. وقال التوريشتي: قولها: (الليالي ذوات العدد) يتعلق بيتحنث لا بالتعبد، ومعناه: يتحنث الليالي، ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على القليل والكثير. قوله: (قبل أن يرجع إلى أهله)، وفي الرواية المتقدمة: قبل أن ينزع إلى أهله، ورواه مسلم كذلك، يقال: نزع إلى أهله إذا جن إليهم فرجع إليهم. قوله: (ثم يرجع إلى خديجة فيتزود)، خص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل إما تفسير بعد إبهام، وإما إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. قوله: (فيتزود بمثلها)، بالباء الموحدة في رواية الكشميهني وعند غيره: لمثلها، باللام والضمير فيه لليالي أو الخلوة أو المرة السابقة ويتزود بالرفع عطف على قوله: يلحق، وهو من التزود وهو اتخاذ الزاد، ولا يقدح في التوكل لوجوب السعي في إبقاء النفس بما يبقيه. قوله: (حتى فجئه الحق)، أي: حتى أتاه أمر الحق بغتة، وكذا في رواية مسلم، وفي الرواية المتقدمة: حتى جاءه الحق. يقال: فجىء يفجأ بكسر الجيم في الماضي وفتحها في الغابر، وفجأ يفجأ بالفتح فيهما، والمراد بالحق: الوحي أو رسول الحق، وهو جبريل. قوله: (وهو في غار حراء)، الواو فيه للحال. قوله: (فجاءه الملك)، أي: جبريل. قاله السهيلي. قوله: (اقرأ)، هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه. وقيل: يحتمل أن يكون على بابه فيستدل به على جواز تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد ذلك. قوله: (ما أنا بقارئ)، ويروى: ما أحسن أن أقرأ. وجاء في رواية ابن إسحاق: ما أقرأ، وفي رواية أبي الأسود في مغازيه أنه قال: كيف أقرأ؟ قوله: (فغطني)، من الغط وهو العصر الشديد، والضغط ومنه الغط في الماء، وهو الغوص فيه، وفي رواية الطبري: فغتني، بالتاء المثناة من فوق والغت حبس النفس مرة وإمساك اليد أو الثوب على الفم، ويروى في غير هذه الرواية فسأبني، من سأبت الرجل سأبا إذا خنقته، ومادته سين مهملة وهمزة وباء موحدة، ويروى: ساتني، بالتاء المثناة من فوق عوض الباء الموحدة. قال أبو عمرو: ساته بسألته سأتا إذا خنقه حتى يموت، ويروى: فدعتني، من الدعت بفتح الدال وسكون العين المهملتين وفي آخره تاء مثناة من فوق، وقال ابن دريد: الدغت الدفع العنيف، ويروى: ذأتني، بالذال المعجمة قال أبو زيد: ذأته إذا خنقه أشد الخنق حتى أدلع لسانه، ويقال: غطني وغتني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني، كله بمعنى واحد. قوله: (حتى بلغ من الجهد)، يجوز فيه فتح الجيم وضمها وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال على
(٣٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 300 301 302 303 304 305 306 307 308 309 310 ... » »»