عمدة القاري - العيني - ج ١٧ - الصفحة ٢٩٤
الآية: * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) * (التوبة: 25) وأراد بالمواطن الكثيرة وقعات: بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة وقوله: * (ويوم حنين) *، عطف على المواطن. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان وهو يوم حنين على المواطن؟ قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وحنين واد بين مكة والطائف، وقال البكري: هو واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا. والأغلب عليه التذكير. لأنه اسم ماء، وقيل: إنه سمي بحنين بن قانية بن مهلاييل. قوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) إما بدل من: يوم حنين، والتقدير: أذكر إذا أعجبتكم عند الملاقاة مع الكفار كثرتكم فلم تغن الكثرة عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت وكلمة: ما مصدرته والباء، بمعنى: أي: مع رحبها، أي: وسعها ثم: (وليتم مدبرين) أي: منهزمين، وقال ابن جريج عن مجاهد: هذه أول آية نزلت من سورة براءة يذكر الله للمؤمنين فضله عليهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة أن ذلك من عنده لا يعددهم ولا عددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا. قوله: (مدبرين) إلا القليل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين كانوا معه، كما سيجيء بيانه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أن وقعة حنين كانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت له أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغة أن هوازن قد جمعوا له ليقاتلوه وأميرهم مالك بن عون النضري، ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال، وهم قليل، وناس من بني عمرو بن عامر وعون ابن عامر، وأقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاؤوا بقضهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حبيشه الذين جاؤوا معه للفتح، وهو: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين، فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له: حنين، فكانت فيه الوقعة من أول النهار في غلس الصبح وانحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ساوروهم ورشقوا بالنبال واصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم ملكهم، فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين، كما قال الله تعالى، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ على بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو، والعباس آخذ بركابه الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابه الأيسر يثقلانه لئلا يسرع السير وهو ينوه باسمه ويدعو المسلمين إلى الرجعة، ويقول: أي عباد الله إلى أنا رسول الله، ويقول في تلك الحال.
* (أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب) * وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، وقيل: ثمانون، منهم: أبو بكر وعمر والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمه العباس، وكان جهير الصوت، بأن ينادي بأعلى صوته: يا أصحاب الشجرة، يعني: شجرة بيعة الرضوان، يا أصحاب سورة البقرة فجعلوا يقولون لبيك يا لبيك، فتراجع شرذمة من الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من التراب بعد ما دعا ربه واستنصره، وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال، ثم انهزموا واتبع المسلمون أقفيتهم يأسرون ويقتلون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة، أي: ملقاة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي (مسند أحمد) من حديث يعلى بن عطاء، قال: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد. وقال محمد بن إسحاق: حدثني والدي إسحاق بن بشار عمن حدثه عن جبير بن مطعم قال: إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم حنين والناس يقتلون إذ نظرت إلى مثل النجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما نشك أنها الملائكة. وقال أبو معشر: ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة رجل: بضعة وثلاثون من المهاجرين وسائرهم من الأنصار، وسل النبي صلى الله عليه وسلم سيفه ثم طرح غمده، وقال
(٢٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 ... » »»