على وفاته وعظم المصيبة، أجرى الهجر مجرى شدة الوجع، وقال الكرماني: وأقول: هو مجاز لأن الهذيان الذي للمريض مستلزم لشدة وجعه، فأطلق الملزوم وأريد اللازم. قلت: لو كان بتحسين العبارة لكان أولى. قوله: (دعوني)، أي: اتركوني ولا تنازعوا عندي، فإن الذي أن فيه من المراقبة والتأهب للقاء الله تعالى والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما تدعوني إليه من الكتابة ونحوها. قوله: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، أخرجوا: أمر من الإخراج، ولم يتفرغ أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه لذلك، فأجلاهم عمر، رضي الله تعالى عنه قيل: كانوا أربعين ألفا ولم ينقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن، مع أنها من جزيرة العرب.
وروى أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله تعالى عنه: (أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب)، وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة، وإن لم تكن من الحجاز، لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه، رواه أبو داود من طريق ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. وقال أحمد بن المعدل: حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى عن الزهري قال: قال مالك بن أنس: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمامة واليمن، وفي رواية ابن وهب عنه: مكة والمدينة واليمن، وعن المغيرة بن عبد الرحمن: مكة والمدينة واليمن وقرياتها، وعن الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام، هذا الطول والعرض من جدة إلى ريف العراق. وفي رواية أبي عبيد عنه: الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، وعرضها من جزيرة جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، وقال الشعبي: هي ما بين قادسية الكوفة إلى حضرموت، وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى بطوارة من أرض العراق إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فما بين رمل بيرين إلى منقطع السماوة. وقال أبو عبيد البكري: قال الخليل: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها. وقال أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبد الله بن شبيب عن زبير عن محمد بن فضالة: إنما سميت جزيرة لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطرافها، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة وهي ما بين الفرات ودجلة وعن سواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة، وامتد البحر من ذلك الموضع مغربا مطبقا ببلاد العرب منقطعا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجروا أسياف عمان والشحر، وسال منه عنق إلى حضرموت إلى أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهايم اليمن بلاد حكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة ساحل مكة، وإلى الجاد ساحل المدينة وإلى ساحل تيما وإيلة حتى بلغ إلى قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين ومر بعسقلان وسواحلها وأتى على صور بساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سوار العراق، فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها على خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد والعروض، واليمن.
قوله: (وأجيزوا الوفد)، وأجيزوا من الإجازة، يقال: أجازه بجوائز أي: أعطاه عطايا، قد مر تفسير الجائزة، والوفد، ويقال: الجائزة قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، وجائزته يوم وليلة. قوله: (ونسيت الثالثة)، قال ابن التين: ورد في رواية أنها القرآن، وقال المهلب: هي تجهيز جيش أسامة بن زيد، وقال ابن بطال: كان المسلمون اختلفوا في ذلك على الصديق فأعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم، عهذ بذلك عند موته، وقال عياض: يحتمل أنها قوله: لا تتخذوا قبري وثنا، فقد ذكر مالك معناه مع إجلاء اليهود.
وههنا فرع ذكره في (التوضيح): وهو يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز، ولا يمنعون من ركوب بحره ولو دخل بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع، فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين، كرسالة وحمل ما يحتاج إليه. وعن أبي حنيفة: جواز سكناهم في الحرم ويمنع دخول حرم مكة. قال تعالى: * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) * (التوبة: 82). والمراد به هنا جميع الحرم. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان إيس أن يعبد في جزيرة العرب، فلو دخله ومات لم يدفن فيه، وإن مات في غير الحرم من الحجاز