قوله: فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول... إلى آخره، غير مسلم لأن مخالفته للقاعدة الأصلية ظاهرة، وهي أن ضمان المثل بالمثل وضمان المتقوم بالقيمة، وهذه القاعدة مطردة في بابها، وضمان المثل بالقيمة عند التعذر خارج عن باب القاعدة المذكورة، فلا يرد عليها الاعتراض بذلك، لأن باب التعذر مستثنى عنها، والتعذر تارة يكون بالاستحالة كما في ضمان الحر بالإبل، وتارة يكون بالعدم، كتعذر المماثلة في ضمان لبن الشاة واللبون، وأيضا في مسألة الشاة اللبون: اللبن جزء من أجزائها، فيدخل في ضمان الكل، ودفع الصاع من التمر أو غيره مع اللبن في المصراة إنما كان في وقت العقوبة في الأموال بالمعاصي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن بيع المحفلات خلابة، والخلابة حرام، فكان من فعل هذا وباع صار مخالفا لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداخلا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعا كثيرة، ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء إلى ما ذكرناه من القاعدة الأصلية.
ثم ذكر ابن السمعاني عن الحنفية أنهم قالوا: إن القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وقد قدر ههنا بمقدار واحد وهو الصاع، فخرج عن القياس. والجواب: منع التعميم في المضمونات كالموضحة، فأرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه. انتهى. قلت: لا نسلم منع التعميم في بابه كما ذكرنا، وما مثل به على وجه الإيراد على القاعدة غير وارد لأنا قلنا: إن الذي يفعل من ذلك عند التعذر خارج من باب القاعدة، غير داخل فيها، حتى يمنع اطراد القاعدة، ثم ذكر عنهم أيضا أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه، وإن كان مختلطا، فما كان منه موجودا عند العقد، وما كان حادثا لم يحب ضمانه. والجواب: أن يقال: إنما يمتنع الرد بالنقص إذا لم يكن لاستعلام العيب، وإلا فلا يمتنع، وهنا كذلك. انتهى. قلت: الذي قالوه كلام واضح صحيح، والجواب الذي أجابه ليس بشيء، فهل يرضى أحد أن يرد هذا الكلام بمثل هذا الجواب؟ وليس العجب منه، وإنما العجب من الذي ينقله في تأليفه ويرضى به.
ثم ذكر عنهم فيما قالوا: بأنه خالف الأصول في جعل الخيار فيه ثلاثا، مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس عند من يقول به، وخيار الرؤية عند من يثبته. ثم أجاب: بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثله، فلا تستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره، انتهى. قلت: لانفراده بأصله عن مماثله قلنا: إنه منسوخ، كما ذكرنا فيما مضى.
ثم ذكر عنهم أنهم قالوا: يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض، ثم أجاب: بأن التمر عوض عن اللبن لا عن الشاة. قلت: ليس دفع التمر الإجزاء لما ارتكب من العصيان حين كانت العقوبة بالأموال في المعاصي.
ثم ذكر عنهم بأنه مخالف لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعا فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن، فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع. الجواب: أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقابلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض. انتهى. قلت: ذكره هذه المسألة تأكيدا لما قاله من الجواب لا يفيده، لأن بالإقالة صار العقد كأنه لم يكن، وعاد كل شيء إلى أصله فلا يحتاج إلى أن يقال: جاز التفرق قبل القبض.
ثم ذكر عنهم بأنهم قالوا: يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب، والجواب: أن اللبن وإن كان موجودا لكنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وتعذر تمييزه، فأشبه الآبق بعد الغصب، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد انتهى. قلت: لما تعذر رد اللبن لاختلاطه باللبن الحادث صار حكمه حكم العدم فيضمن بالبدل، كالعين المغصوبة إذا هلكت عند الغاصب، وتشبيهه بالعبد الآبق غير صحيح، لأنه إذا تعذر رده صار في حكم الهالك، فيتعين القيمة.
ثم نقل عنهم بأنه: يلزم منه إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، ثم أجاب: بأنه لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها، فكان البايع شرط له ذلك، فتبين له الأمر بخلافه، فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي. انتهى. قلت: البيع بمثل هذا الشرط فاسد إن كان لفظيا، فبالمعنوي بالأولى، ولا يصح من الشروط إلا شرط الخيار بالنص الوارد فيه، وأما العيب فإذا ظهر فإنه يرده ولا يحتاج فيه إلى الشرط.