عنها بما ذكرناه فيما مضى عن قريب. وأقوى الوجوه في ترك العمل بها مخالفتها للأصول من ثمانية أوجه.
أحدها: أنه أوجب من الرد من غير عيب ولا شرط. الثاني: أنه قدر الخيار بثلاثة أيام، وإنما يتقيد بالثلاث خيار الشرط. الثالث: أنه أوجب الرد بعد ذهاب جزء من المبيع. الرابع: أنه أوجب البدل مع قيام المبدل. الخامس: أنه قدره بالتمر أو بالطعام والمتلفات إنما تضمن بأمثالها أو قيمتها بالنقد. السادس: أن البن من ذوات الأمثال، فجعل ضمانه في هذا الخبر بالقيمة. السابع: أنه يؤدي إلى الربا فيما إذا باعها بصاع تمر. الثامن: أنه يؤدي إلى الجمع بين العوض والمعوض.
وقال هذا القائل أيضا: لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث عمر، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس. وأخرجه البيهقي في (الخلافيات) من طريق عمرو بن عوف المزني. وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل.
قلت: أما حديثابن عمر فرواه أبو داود من رواية صدقة بن سعيد الجعفي عن جميع بن عمير التيمي،، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا)، قال الخطابي: ليس إسناده بذلك. وقال البيهقي: تفرد به جميع بن عمير، وقال البخاري: فيه نظر، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: كان رافضيا يضع الحديث. وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال أبو حاتم: كوفي صالح الحديث من عنق الشيعة. وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى وفي سنده إسماعيل ابن مسلم المكي وهو ضعيف. وأخرجه البيهقي أيضا من رواية إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحتلبها، فإن رضيها فليمسكها، وإلا فليردها وصاعا من تمر). والمحفوظ أنه مرسل. وأما حديث رجل من الصحابة، فأخرجه أحمد عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتلقى الجلب ولا يبيع حاضر لباد، ومن اشترى شاة مصراة أو ناقة). قال شعبة: إنما قال: ناقة مرة واحدة. (فهو منها بأحد النظرين، إذا هو حلب، إن ردها رد معها صاعا من طعام). قال الحكم: أو صاعا من تمر، ثم إن بعضهم قد تصدى للجواب عما قالت الحنفية في هذا الموضع، فما قالوا: إن هذا يعني: حديث المصراة خبر واحد لا يفيد إلا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به، فلا يلزم العمل به.
ثم قال هذا القائل وتعقب: بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما خالف قياس الأصول بدليل أن الأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان اليهما، فالسنة أصل والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال: إن الأصل يخالف نفسه؟ انتهى. قلت: قوله: وهو مخالف لقياس الأصول، لم يقل به الحنفية، كذا، وكيف ينقل عنهم ما لم يقولوا أو قالوا؟ فينقل عنهم بخلاف ما أرادوا منه لعدم التروي وعدم إدراك التحقيق فيه؟ فكيف يقال: وهو مخالف لقياس الأصول، والحال أن القياس أصل من الأصول، لأن الحنفية عدوا القياس أصلا رابعا، على ما في كتبهم المشهورة، فيكون معنى ما نقلوا من هذا، وهو مخالف لأصل الأصول، وهو كلام فاسد، وقوله: والقياس فرع، كلام فاسد أيضا لأنه عد أصلا رابعا، فكيف يقول: إنه فرع، حتى يترتب عليه قوله؟ فكيف يرد الأصل بالفرع؟ ثم إنه نقل عن ابن السمعاني من قوله: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر، لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه لم يجز رد أحدهما لأنه رد للخبر، وهو مردود باتفاق؟ انتهى.
قلت: ثم نقل عن ابن السمعاني من قوله: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة، لأن السنة الثابتة مقدمة عليها وعلى تقدير التنزل فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول، لأن الذي ادعوه عليه من المخالفة بينوها بأوجه: أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة، وههنا إن كان اللبن مثليا فليضمن باللبن، وإن كان متقوما فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونا بالتمر فخالف الأصل، والجواب منع الحصر، فإن الحر يضمن في ديته بالإبل، وليست مثلا له، ولا قيمة، وأيضا فضمان المثل بالمثل ليس مطردا، فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر، لتعذر المماثلة. انتهى. قلت: