عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٢٧٦
حديث آخر رواه ابن حبان في (صحيحه) والبيهقي في (سننه) من رواية الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن عمه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب فقط، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك، فقل: إني صائم).
ذكر معناه: قوله: (من لم يدع قول الزور)، أي: من لم يترك، وقد ذكرنا تفسير الزور عن قريب، وقال شيخنا، قوله: هذا يحتمل أن يراد: من لم يدع ذلك مطلقا غيره مقيد بصوم، ويكون معناه: أن من لم يدع قول الزور والعمل به الذي هو من أكبر الكبائر وهو متلبس به، فماذا يصنع بصومه؟ وذلك كما يقال: أفعال البر يفعلها البر والفاجر ولا يجتنب النواهي إلا صديق، ويحتمل أن يكون المراد: من لم يدع ذلك في حال تلبسه بالصوم، وهو الظاهر، وقد صرح به في بعض طرق النسائي: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل في الصوم). وقد بوب الترمذي على هذا الحديث بقوله: باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم. وقال شيخنا: فيه إشكال من حيث أن الحديث فيه قول الزور والعمل به، والغيبة ليست قول الزور ولا العمل به، إذ حد الغيبة على ما هو المشهور ذكرك أخاك بما فيه مما يكرهه، وقول الزور هو الكذب والبهتان، وقد فسر النبي، صلى الله عليه وسلم، قول الزور في قوله في سورة الحج، بشهادة الزور، فقال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله)، وهكذا بوب أبو داود على الحديث: الغيبة للصائم، وبوب عليه النسائي في (الكبرى): ما ينهى عنه الصائم من قول الزور والغيبة، وبوب عليه ابن ماجة: باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، وكأنهم والله أعلم فهموا من الحديث حفظ المنطق عن المحرمات، ومن جملتها الغيبة، ولهذا بوب عليه ابن حبان في (صحيحه): ذكر الخبر الدال على أن الصيام إنما يتم باجتناب المحظورات لا بمجانبة الطعام والشراب، والجمع فقط، وفي بعض ألفاظ الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل)، فيحتمل أن يراد بالجهل جميع المعاصي، وهذه اللفظة عند البخاري في كتاب الأدب، وعند النسائي أيضا وابن حبان في (صحيحه). ورواه ابن ماجة ولفظه: (من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به)، قال شيخنا: الضمير في: به، يحتمل أن يعود إلى الزور فقط، وإن كان أبعد في الذكر لاتفاق الروايات عليه، ويحتمل أن يعود على الجهل فقط لكونه أقرب مذكور، وعلى هذا فالغيبة عمل بالجهل، ويحتمل عود الضمير عليهما: أعني الزور والجهل، وإنما أفرد الضمير لاشتراكهما في تنقيص الصوم. انتهى. قلت: يجوز أن يعود إليهما باعتبار كل واحد.
واختلف العلماء في أن الغيبة والنميمة والكذب: هل يفطر الصائم؟ فذهب الجمهور من الأئمة إلى أنه لا يفسد الصوم بذلك، وإنما التنزه عن ذلك من تمام الصوم. وعن الثوري: إن الغيبة تفسد الصوم، ذكره الغزالي في (الإحياء)، وقال: رواه بشر بن الحارث عنه، قال: وروى ليث عن مجاهد: (خصلتان تفسدان الصوم: الغيبة والكذب)، هكذا ذكره الغزالي بهذا اللفظ، والمعروف عن مجاهد: (خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب)، هكذا رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد، وروى ابن أبي الدنيا عن أحمد بن إبراهيم عن يعلى بن عبيد عن الأعمش عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون: إن الكذب يفطر الصائم. وروى أيضا عن يحيى بن يوسف عن يحيى بن سليم عن هشام عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني، قالوا: اتقوا المفطرين: الكذب والغيبة.
قوله: (فليس لله حاجة) هذا مجاز عن عدم الالتفات والقبول، فنفى السبب وأراد المسبب، قال ابن بطال: وضع الحاجة موضع الإرادة، إذ الله لا يحتاج إلى شيء، يعني: ليس لله إرادة في صيامه، وقال أبو عمر: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور، وما ذكر معه، وهو مثل قوله: (من باع الخمر فليشقص الخنازير)، أي: يذبحها، ولم يأمره بذبحها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، قال: فكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه، ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه. ثم قوله: (فليس لله حاجة) هكذا لفظ (الصحيح) وكتب السنن وغيرها من الكتب المشهورة، وفي بعض طرقه: (فليس به حاجة)، يعني بالذي يصوم بهذا الوصف، رواه بهذا اللفظ البيهقي في (شعب الإيمان) من رواية يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري من غير ذكر أبيه، وإسناده صحيح، ويزيد بن هارون من أئمة المسلمين.
(٢٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 ... » »»