على مكة. قوله: (يقولون: يثرب) أراد أن بعض المنافقين يقولون للمدينة: يثرب، يعني يسمونها بهذا الاسم، واسمها الذي يليق بها: المدينة، وقد كره بعضهم من هذا تسمية المدينة يثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين، وروى أحمد من حديث البراء بن عازب، رضي الله تعالى عنه، رفعه: (من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى: هي طابة). وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة: يثرب)، ولهذا قال عيسى بن دينار، من المالكية: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، قالوا: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم، يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح، قوله: (تنفي الناس)، قال أبو عمر: أي: تنفي شرار الناس، ألا يرى أنه مثل ذلك وشبهه بما يصنع الكير في الحديد، والكير إنما ينفي ردئ الحديد وخبثه، ولا ينفي جيده؟ قال وهذا عندي، والله أعلم، إنما كان في حياته صلى الله عليه وسلم، فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه. وأما بعد وفاته فقد خرج منها الخيار والفضلاء والأبرار، وقال عياض: وكان هذا يختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه، وقال النووي: وليس هذا بظاهر، لأن عند مسلم: (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)، وهذا، والله أعلم، زمن الدجال. قوله: (كما ينفي الكير)، بكسر الكاف وسكون الياء آخر الحروف، وفي (التلويح): الكير هو دار الحديد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرا، كذا قال أهل اللغة، ومنه حديث أبي أمامة وأبي ريحانة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى كير من جهنم، وهو نصيب المؤمن من النار). وقيل: في الكير لغة أخرى: كور، بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه: الزق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير: حانوت الحداد والصائغ وقال ابن التين: وقيل: الكير هو الزق، والحانوت هو الكور. وفي (المحكم): الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في (أخبار المدينة) بإسناده إلى أبي مردود، قال: رأى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، كير حداد في السوق، فضربه برجله حتى هدمه، وفي (المحكم) والجمع أكيار وكيرة، وعن ثعلب: كيران، وليس ذلك بمعروف في كتب اللغة، إنما الكيران جمع كور، وهو المرجل. وفي (الصحاح): المنجل، وعن أبي عمرو: الكير الحداد وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات. قوله: (خبث الحديد) بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة، وفي آخره ثاء مثلثة، وهو وسخ الحديد الذي تخرجه النار. وقال الكرماني: ويروى، بضم الخاء وسكون الباء، وفيه نظر، والمراد أنها لا ينزل فيها من في قلبه دغل، بل يميزه عن القلوب الصادقة ويخرجه، كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسب التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في إشعال النار التي يقع بها التمييز.
ذكر ما يستفاد منه: قال المهلب بن أبي صفرة: هذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة، لأنها هي التي أدخلت مكة وسائر القرى في الإسلام، فصارت القرى ومكة في صحائف أهل المدينة، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وروى عن أحمد خلافا لأبي حنيفة والشافعي، وقال ابن حزم: روى القطع بتفضيل مكة على المدينة عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جابر وأبو هريرة وابن عمر وابن الزبير وعبيد الله بن عدي، منهم ثلاثة مدنيون بأسانيد في غاية الصحة، قال: وهو قول جميع الصحابة وجمهور العلماء، واحتج مقلد ومالك بأخبرا ثابتة منها، قوله، صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم، عليه الصلاة والسلام). قال: ولا حجة لهم فيه، إنما فيه أنه حرمها كما حرمها إبراهيم، وبقوله: (اللهم بارك لنا في تمرنا ومدنا)، وبقوله: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)، قال: ولا حجة لهم فيهما، إنما فيهما الدعاء للمدينة وليس من باب الفضل في شيء، وبقوله: المدينة كالكير)، ولا حجة لهم، لأن هذا إنما هو في وقت دون وقت، وفي قوم دون قوم، وفي خاص دون عام، انتهى. واحتج بعضهم على تفضيل المدينة على مكة بقوله: (كما ينفي الكير خبث الحديد)، ولا حجة في ذلك، لأن هذا في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) * (التوبة: 101). والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت.