نصر جانيا وآوه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح هو الأمر المبتدع نفسه. قوله: (فعليه لعنة الله..) إلى آخره، هذا وعيد شديد لمن ارتكب هذا، قالوا: المراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه والطرد عن الجنة، لأن اللعن في اللغة هو الطرق والإبعاد، وليس هي كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد.
ذكر ما يستفاد منه: احتج بهذا الحديث محمد بن أبي ذئب والزهري والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وقالوا: المدينة لها حرم فلا يجوز قطع شجرها ولا أخذ صيدها، ولكنه لا يجب الجزاء فيه عندهم، خلافا لابن أبي ذئب، فإنه قال: يجب الجزاء، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا الشافعي، وقال في القديم: من اصطاد في المدينة صيدا أخذ سلب، ويروي فيه أثرا عن سعيد، وقال في الجديد بخلافه، وقال ابن نافع: سئل مالك عن قطع سدر المدينة وما جاء فيه من النهي؟ فقال: إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها ويستأنس بذلك ويستظل به من هاجر إليها. وقال ابن حزم: من احتطب في حرم المدينة فحلال سلبه كل ما معه في حاله تلك، وتجريده إلا ما يستر عورته فقط، لما روى مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعا عن العقدي قال عبد: أخبرنا عبد الملك بن عمر، وقال: حدثنا عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا ويخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده عليهم، وقال الثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها، وأجابوا عن الحديث المذكور بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لا لأنه لما ذكروه من تحريم صيد المدينة وشجرها، بل إنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها، كما ذكرنا عن قريب عن ابن نافع: سئل مالك عن قطع سدر المدينة إلى آخره، وذلك كمنعه صلى الله عليه وسلم من هدم آطام المدينة. وقال: إنها زينة المدينة على ما رواه الطحاوي، عن علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا وهب بن جرير عن العمري عن نافع عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آطام المدينة أن تهدم). وفي رواية: (لا تهدموا الآطام فإنها زينة المدينة). وهذا إسناد صحيح، ورواه البزار في (مسنده) والآطام جمع أطم، بضم الهمزة والطاء، وهو بناء مرتفع، وأراد بآطام المدينة أبنيتها المرتفعة كالحصون، ثم ذكر الطحاوي دليلا على ذلك من حديث حميد الطويل عن أنس، قال: (كان لآل أبي طلحة ابن من أم سليم يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه إذا دخل، وكان له نغير، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبا عمير حزينا فقال: ما شأن أبي عمير؟ فقيل: يا رسول الله! مات نغيره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟). وأخرجه من أربع طرق. وأخرجه مسلم أيضا: حدثنا شيبان بن فروخ، قال: حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح (عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: وأحسبه قال: فطيما، قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: أبا عمير ما فعل النغير؟ قال: فكان يلعب به). وأخرجه النسائي أيضا في اليوم والليلة، والبزار في (مسنده). واسم أبي طلحة زيد بن أبي سهل الأنصاري وأم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، واسمها سهلة أو رميلة أو مليكة. ونغير، بضم النون وفتح الغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء: مصغر نغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار، ويجمع على: نغران، قال الطحاوي: فهذا قد كان بالمدينة ولو كان حكم صيدها كحكم صيد مكة إذا لما أطلق له رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس النغير ولا اللعب به كما لا يطلق ذلك بمكة، وقال بعضهم: احتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير. ونقل عنه ما ذكرناه، ثم قال: وأجيب: باحتمال أن يكون من صيد الحل، انتهى.
قلت: لا تقوم الحجة بالاحتمال الذي لا ينشأ عن دليل، واعترضوا أيضا بأنه يجوز أن يكون من صيد الحل ثم أدخله المدينة، ورد بأن صيد الحل إذا أدخل الحرم يجب عليه إرساله فلا يرد علينا، ثم قال الطحاوي، فقال قائل: فقد يجوز أن يكون هذا الحديث بقناة، وذلك الموضع غير موضع الحرم فلا حجة لكم في هذا الحديث، فنظرنا هل نجد مما سوى هذا الحديث ما يدل على شيء من حكم صيد المدينة؟ فإذا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي وفهد قد حدثانا، قالا: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق (عن مجاهد، قال: قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس