عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ٦٨
شريح القاضي وبعض الظاهرية. والثاني: قول الجمهور، وإلى الثالث نحى البخاري، وهل يمضي قول الخارص أو يرجع ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول: قول مالك وطائفة. والثاني: قول الشافعي ومن تبعه. وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أم لا بد من اثنين؟ وهما قولان للشافعي والجمهور على الأول، واختلف أيضا هل هو اعتبار أو تضمين، وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني، وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص.
واختلفوا في الخرص هل هو شهادة أو حكم؟ فإن كان شهادة لم يكتف بخارص واحد، وإن كان حكما اكتفى به، وكذلك اختلفوا في القائف والطبيب يشهد في العيوب، وحاكم الجزاء في الصيد، واختلفوا: هل يحاسب أصحاب الزرع والثمار بما أكلوا قبل التصفية والجذاذ أم لا؟ وكذلك اختلفوا: هل يؤخذ قدر العواري والضيف وما في معناه أم لا؟ واختلفوا أيضا إذا غلط الخارص.
ومحصل الأمر فيه أنه: إن لم يكن من أهل المعرفة بالخرص فالرجوع إلى الخارج لا إلى قوله، وإن كان من أهل المعرفة ثم تبين أنه أخطأ فهل يؤخذ بقوله أو بما تبين؟ فيه خلاف على اختلافهم في المجتهد يخطئ هل ينقض حكمه أم لا؟ قال ابن قدامة: ويلزم الخارص أن يترك الثلث أو الربع في الخرص توسعة على أرباب الأموال، وبه قال إسحاق والليث لحديث سهل بن أبي خيثمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع، رواه الترمذي، واستدل من يرى الخرص في النخل والكرم بما رواه ابن المسيب عن عتاب بن أسيد، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا)، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وقال الماوردي: الدليل على جواز الخرص ورود السنة قولا وفعلا وامتثالا: أما القول فحديث عتاب، وأما الفعل فحديث البخاري في هذا الباب، وأما الامتثال فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له خراصون، كأنه يعني ما رواه أبو داود عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص حين يطيب قبل أن يؤكل. وعن ابن عمر في (صحيح ابن حبان): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلب أهل خيبر على الأرض والزرع والنخل فصالحوه، وفيه: فكان ابن رواحة يأتيهم فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر. وفي (المصنف) بسند صحيح عن جابر قال: خرصها عليهم ابن رواحة يعني: خيبرا أربعين ألف وسق.
واستدل من يرى الخرص مطلقا في النخيل وغيره بما رواه أبو داود من حديث جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر الحديث، وفيه: (فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحرز النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص). الحديث. وبما رواه البيهقي من حديث الصائت بن زبيد عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص، فقال: أثبت لنا النصف وأبق لهم النصف فإنهم يسرفون، ولا تصل إليهم) الحديث.
وقال الشعبي والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: الخرص مكروه. وقال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري خرص الثمار لا يجوز. وفي (أحكام ابن بزيزة): قال أبو حنيفة وصاحباه: الخرص باطل. وقال الماوردي: احتج أبو حنيفة بما رواه جابر مرفوعا: (نهى عن الخرص)، وبما رواه جابر بن سمرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كل ثمرة بخرص)، وبأنه تخمين، وقد يخطئ، ولو جوزنا لجوزنا خرص الزرع، وخرص الثمار بعد جذاذها أقرب إلى الإبصار من خرص ما على الأشحار، فلما لم يجز في القريب لم يجز في البعيد، ولأنه تضمين رب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز لأنه بيع رطب بتمر، وأنه بيع حاضر بغائب، وأيضا فهو من المزابنة المنهي عنها وهو بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، وهو أيضا من: باب بيع الرطب بالتمر نسيئة، فيدخله المنع بين التفاضل وبين النسيئة. وقالوا: الخرص منسوخ بنسخ الربا. وقال الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم، لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار ثم تعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا الشعبي، قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور فليس، كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. قلت: قوله: تحريم الربا والميسر متقدم، يحتاج إلى معرفة التاريخ، وعندنا ما يدل على صحة النسخ
(٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 ... » »»