وهو ما رواه الطحاوي من حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخرص، وقال: أرأيتم إن هلك التمر أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟) والحظر بعد الإباحة علامة النسخ. وقوله: والخرص عمل به... إلى قوله: إلا الشعبي، مسلم لكنه ليس على الوجه الذي ذكروه، وإنما وجهه أنهم فعلوا ذلك ليعلم مقدار ما في أيدي الناس من الثمار فيؤخذ مثله بقدره في أيام الصرام لا أنهم يملكون شيئا ما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل. وأما قولهم: إنه تخمين... إلى آخره، ليس بكلام موجه لأنه لا شك أنه تخمين وليس بتحقيق، وعيان، وكيف يقال له: هو اجتهاد، والمجتهد في الأمور الشرعية قد يخطئ؟ ففي مثل هذا أجدر بالخطأ، ثم الجواب عن حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك معرفة مقدار ما في نخل تلك المرأة خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما تجب فيها، وأيضا فقد خرص حديقتها وأمرها أن تحصي، وليس فيه أنه جعل زكاته في ذمتها وأمرها أن تتصرف في ثمرها كيف شاءت، وإنما كان يفعل ذلك تخويفا لئلا يخونوا، وأن يعرفوا مقدار ما في النخل ليأخذوا الزكاة وقت الصرام هذا معنى الخرص، فأما أنه يلزم به حكم شرعي، فلا.
وأما حديث عتاب بن أسيد، فإن الذي رواه سعيد بن المسيب، فعتاب توفي سنة ثلاث عشرة وسعيد ولد في سنة خمس عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقال أبي: علي بن السكن لم يرو هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه غير هذا، وهو من رواية عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح عن ابن شهاب عن سعيد، وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وخالفهما صالح بن كيسان فرواه عن الزهري عن سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا، ولم يقل: عن عتاب، وسئل أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان فيما ذكره أبو محمد الرازي عنه، فقالا: هو خطأ. وقال أبو حاتم: الصحيح: عن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم... مرسلا. وقال أبو زرعة: الصحيح عندي: عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم... ولا أعلم أحدا تابع عبد الرحمن بن إسحاق في هذه الرواية. فإن قلت: زعم الدارقطني أن الواقدي رواه عن عبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد عن المسور بن مخرمة عن عتاب، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص أعناب الثقيف كخرص النخل، ثم يؤدى زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا، فهذا ليس فيه انقطاع؟ قلت: سبحان الله، إذا كان الواقدي فيما يحتجون به يسكتون عنه، وإذا كان فيما يحتج به عليهم يشنعون بأنواع الطعن، ومع هذا قال أبو بكر بن العربي: لم يصح حديث سعيد، ولا حديث سهل بن أبي خيثمة، ولا في الخرص حديث صحيح إلا حديث البخاري. قال: ويليه حديث ابن رواحة.
قلت: قد مر الجواب عن حديث البخاري، وأما حديث ابن رواحة الذي رواه أبو داود من حديث عائشة ففي إسناده رجل مجهول، لأن أبا داود قال: حدثنا يحيى بن معين أخبرنا حجاج عن ابن جريج، قال: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت، وهي تذكر شأن خيبر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حتى يطيب قبل أن يؤكل منه. وأما حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود، وحديث الصلت بن زبيد الذي رواه البيهقي وغيرهما، فداخل تحت قول ابن العربي: ولا في الخرص حديث صحيح، ويقال: إن قصة خيبر مخصوصة لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم ما بأيديهم من الثمار فيترك لهم منها قدر نفقاتهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم ما أقرهم الله، فلو كان على وجه المساقاة لوجب ضرب الأجل والتقييد بالزمان، لأن الإجارة المجهولة محرمة. وقال الطحاوي: قال الذين لا يرون بالخرص: أن ليس في شيء من الآثار التي وردت فيه أن الثمرة كانت رطبا في وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن يكون رطبا حينئذ فيجعل لصاحبها حق الله فيها بكيله ذلك تمرا يكون عليه نسيئه؟ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، ونهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وقد يجوز أن يصيب الثمرة بعد ذلك آفة فتتلفها، أو نار فتحرقها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها بدلا من حق الله مأخوذا منه بدلا مما لم يسلم له، واعترض عليه بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان. قلت: إذا لم يكن ضمان بعد تلف المخروص فلا فائدة في الخرص حينئذ، والأظهر عند الشافعي: أن الخرص تضمين حتى لو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص، فإذا كان نفس الخرص تضمينا ينبغي أن لا يفارق الأمر بين التلف والإتلاف، وقال ابن العربي: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم خرص النخل إلا على اليهود، لأنهم كانوا شركاء وكانوا غير أمناء، وأما المسلمون فلم يخرص عليهم.