عمدة القاري - العيني - ج ٨ - الصفحة ١١٨
إلى آخره مردود أيضا، لأن إثبات منع شيء غير مقتصر على الصيغة، وتعليله بالاحتمال غير مفيد لدعواه، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم على سهيل فلا ننكرها، غير أن حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)، وأخرجه ابن ماجة أيضا ولفظه: (فليس له شيء) وقال الخطيب: المحفوظ، (فلا شيء له) ويروى: (فلا شيء عليه)، وروي (فلا أجر له)، قد نسخ حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، بيانه أن حديث عائشة إخبار عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد تقدمته الإباحة، فصار حديث أبي هريرة ناسخا، ويؤيده إنكار الصحابة على عائشة، رضي الله تعالى عنها، لأنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت، ولولا ذلك ما أنكروا ذلك عليها.
فإن قلت: ما صورة الإنكار في ذلك؟ قلت: في رواية مسلم: (عن عائشة: لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها...) الحديث، وفي رواية له: (إن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد..) الحديث. فإن قلت: لم لا يجعل الموجب للإباحة متأخرا؟ قلت: يلزم من ذلك إثبات نسخين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة. فإن قلت: من أي قبيل يكون هذا النسخ؟ قلت: من قبيل النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر ثم نسخ موجبا للإباحة، ففي مثل هذا يتعين المصير إلى النص الموجب للحظر، وإلى الأخذ به، وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والحظر طارىء عليها فيكون متأخرا. فإن قلت: ليس بين الحديثين مساواة، لأن حديث عائشة أخرجه مسلم، وحديث أبي هريرة قد ضعفوه بصالح مولى التومة، فلا يحتاج إلى هذا التوفيق. وقال ابن عدي: هذا من منكرات صالح، والأئمة طعنوا فيه بسببه، وقالوا: إنه ضعيف، وقال ابن حبان في (كتاب الضعفاء): اختلط صالح بآخر عمره ولم يتميز حديث حديثه من قديمه، ثم ذكر له هذا الحديث، وقال: إنه باطل، وكيف يقول الرسول ذلك وقد صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد.
وقال النووي: أجيب عن هذا بأجوبة. أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، وقال أحمد: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التومة وهو ضعيف. والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة في (سنن أبي داود): فلا شيء عليه، فلا صحة فيه. والثالث: أن اللام فيه بمعنى: على كقوله تعالى: * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7). أي: فعليها. وقال البيهقي: كان مالك يخرجه. قلت: رجال هذا ثقات يحتج بهم لا نزاع فيهم، وأما صالح فإن العجلي قال: صالح ثقة، وعن ابن معين أنه قال: صالح ثقة حجة، قيل له: إن مالكا ترك السماع منه. قال: إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت. وقال ابن عدي: لا بأس به إذا سمعوا منه قديما مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم. انتهى. فعن هذا علم أنه لا خلاف في عدالته وابن أبي ذئب سمع منه هذا الحديث قديما قبل اختلاطه، فصار الحديث حجة. وقول ابن حبان: إنه باطل، كلام باطل لأن مثل أبي داود أخرج هذا الحديث وسكت عنه، فأقل الأمر فيه أن يكون حسنا عنده، لأنه رضى به. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وكيف يجوز له الحكم ببطلان هذا الحديث؟ فإن كان تشنيعه بسبب اختلاط صالح، فقد ذكرنا أنه كان قبل الاختلاط ممن اثنى عليه بالثقة، وأن من أخذ منه قبله لا يرد ما أخذه منه، وأن ابن أبي ذئب أخذ عنه قبله، وإلا فلا يظهر منه إلا التعصب المحض. والعجب منه أنه يقول: وكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقد صلى على سهيل؟ فكأنه نسي باب النسخ، ومثل هذا كثير قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، وبهذا يرد أيضا ما قاله النووي، فإنه أيضا ما إلى ما قال ابن حبان وقوله: إن اللام، بمعنى: على، عدول عن الحقيقة من غير ضرورة، ولا سيما على أصلهم، فإن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة ههنا، ويرد عليه في ذلك أيضا رواية ابن أبي شيبة: فلا صلاة له، فإنه لا يمكن أن يقول: إن: اللام، هنا بمعنى: على، لفساد المعنى. وأما قول البيهقي: كان مالك يخرجه، فإن مراده فيما أخذ عنه بعد الاختلاط.
وأما حديث مسلم في ذلك فإن أصله في (موطأ) مالك فإنه أخرجه فيه عن أبي النضر عن عائشة قال أبو عمر: هكذا هذا الحديث عند جمهور الرواة منقطعا إلا أن أبا النضر لم يسمع من عائشة شيئا، وقال ابن وضاح: ولا أدركها، وإنما يروي عن أبي سلمة عنها. قال: وكذلك أسنده مسلم، وعمد عليه الدارقطني، قال: ولا يصح إلا مرسلا عن أبي النضر عن عائشة، لأنه قد خالف في ذلك رجلان حافظان: مالك والماجشون رواية عن أبي النضر عن عائشة، رضي الله تعالى عنها.
واستدل بهذا الحديث الشافعي وغيره في مشروعية الصلاة على الغائب، قالوا: وهو سنة في حق من كان
(١١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 ... » »»