عمدة القاري - العيني - ج ٨ - الصفحة ١١٧
صلى الله عليه وسلم يكبر أربعا إلا سمعته، فاختلفوا في ذلك، فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، فلما ولي عمر، رضي الله تعالى عنه، ورأى اختلاف الناس في ذلك شق عليه جدا، فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه، فانظروا أمرا تجتمعون عليه، فكأنما أيقظهم، فقالوا: نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين فأشر علينا، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: بل أشيروا علي، فإنما أنا بشر مثلكم، فتراجعوا الأمر بينهم فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى، والفطر أربع تكبيرات، فأجمع أمرهم على ذلك، فهذا عمر، رضي الله تعالى عنه، قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهم حضروا من فعل رسول الله. ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم، فكانوا ما فعلوا، فمن ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا فذلك نسخ لما كانوا قد عملوا لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا، كما كانوا مأمونين على ما قد رووا. فإن قلت: كيف ثبت النسخ بالإجماع؟ لأن الإجماع لا يكون إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأوان النسخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم للاتفاق على أن لا نسخ بعده؟ قلت: قد جوز ذلك بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النص به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النسخ يجوز بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى، على أن ذلك الإجماع منهم إنما كان على ما استقر عليه آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد رفع كل ما كان قبله مما يخالفه، فصار الإجماع مظهرا لما قد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فافهم. حتى قال بعضهم: إن حديث النجاشي هو الناسخ لأنه مخرج في الصحيح من رواية أبي هريرة، قالوا: وأبو هريرة متأخر الإسلام، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، ومما يؤكد هذا ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه، (قال: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا، حتى مات النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس من ورائه فكبر عليه أربعا، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى.
وفيه: معجزة عظيمة للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أعلم الصحابة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه مع بعد عظيم ما بين أرض الحبشة والمدينة. وفيه: حجة للحنفية والمالكية في منع الصلاة على الميت في المسجد، لأنه صلى الله عليه وسلم خرج بهم إلى المصلى فصف بهم، وصلى عليه، ولو ساغ أن يصلى عليه في المسجد لما خرج بهم إلى المصلى. وقال النووي: لا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهي لاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر بكونه أسلم. فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير من طريق ثابت والدارقطني في الأفراد، والبزار من طريق حميد، كلاهما عن أنس، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي، قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة، فنزلت: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) * (آل عمران: 991). الآية.
وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي سعيد، رضي الله تعالى عنه: أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا قلت: قول النووي: لا حجة فيه غير صحيح لأن تعليله بقوله: لأن الممتنع.. إلى آخره، يرد قوله ويبطل ما قاله لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل مجرد الصلاة على النجاشي في المسجد، مع كونه غائبا، فدل على المنع وإن لم يكن الميت في المسجد، وقوله: حتى لو كان الميت... إلى آخره، على تعليل من يعلل منع الصلاة على الميت في المسجد لخوف التلوث من الميت، وأما بالنظر إلى مطلق حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)، فالمنع مطلق. وقول ابن بزيزة ليس فيه صيغة النهي...
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»