الحقيقة مقام الفاعل، وانتصاب النار على أنه مفعول ثان، لأن: أريت، من الإراءة، وهو يقتضي مفعولين، وهذه رواية أبي ذر. وفي رواية غيره: (رأيت النار)، وكانت رؤية النار قبل رؤية الجنة لما وقع في رواية عبد الرزاق: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذ رجع عرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه). وروى مسلم من حديث جابر، قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث بطوله، وفيه: (ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها)، وفيه: (ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي..) الحديث وجاء من حديث سمرة، أخرجه ابن خزيمة: (لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم). فإن قلت: رؤياه النار من أي باب كان من أبواب النيران؟ فإن قلت: قيل: من الباب الذي يدخل منه العصاة من المسلمين. قلت: يحتاج هذا إلى دليل مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: (ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حتى رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سبب السائبة). رواه مسلم، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى النيران كلها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من حشائش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمر بن مالك يجر قصبة في النار). قوله: (فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع). وفي رواية المستملي والحموي: (فلم أنظر كاليوم أفظع). قوله: (منظرا) منصوب بقوله: (لم أر). و (أفظع)، أفعل التفضيل منصوب لأنه صفة المنظر. وقوله: (كاليوم قط) معترض بين الصفة والموصوف، والكاف فيه بمعنى المثل، والمراد من اليوم الوقت الذي فيه وتقدير الكلام: لم أر منظرا أفظع مثل اليوم، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، ومعنى أفظع: أبشع وأقبح. وقال ابن سيده: فظع الأمر فظاعة وهو فظيع وأفظع وأشد وأفظع افظاعا وهو مفظع، والاسم الفظاعة وأفظعني هذا الأمر وأفظعته وأفظع هو، وفي (الصحاح) أفظع الرجل، على ما لم يسم فاعله: إذا نزل به أمر عظيم. قوله: (ورأيت أكثر أهلها) أي: أهل النار النساء. فإن قلت: كيف يلتئم هذا مع ما رواه أبو هريرة: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا)، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة؟ قلت: يحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وقيل: خرج هذا مخرج التغليظ والتخويف، وفيه نظر، لأنه أخبر بالرؤية الحاصلة. وقيل: لعله مخصوص ببعض النساء دون بعض. قوله: (بم يا رسول الله؟) أصله: بما، لأنها كلمة الاستفهام، فحذفت الألف تخفيفا. قوله: (أيكفرن بالله؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (قال: يكفرن العشير)، كذا وقع للجمهور عن مالك بدون الواو، وقيل: ويكفرن، وكذا وقع في رواية مسلم. قال: حدثنا حفص بن ميسرة، قال: حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، قال: (انكسفت الشمس..) الحديث بطوله، وفيه: (ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير...) الحديث، وروى يحيى بن يحيى عن مالك في (موطئه) قال: ويكفرن العشير، بزيادة الواو، قيل: زيادة الواو غلط. قلت: ليس كذلك، لأنه لا فساد فيه من جهة المعنى لأنه أجاب مطابقا للسؤال،. وزاد، وقال بعضهم: إن كان المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك. قلت: ليس كذلك، لأن المخالفة للرواة إنما تعد غلطا إذا فسد المعنى، ولا فساد. كما ذكرنا. فإن قلت: كفر يتعدى بالباء، وقوله: (أيكفرن بالله؟) على الأصل، وقوله: (يكفرن العشير) بلا باء؟ قلت: لأن الذي تعدى بالباء يتضمن معنى الاعتراف، وكفر العشير لا يتضمن ذلك. قوله: (ويكفرن الإحسان) يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله: (يكفرن العشير)، لأن المقصود كفر إحسان العشير لا كفر ذاته، والعشير هو الزوج، وقد مر الكلام فيه مستقصى في كتاب الإيمان، والمراد من كفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره كما يدل عليه آخر الحديث. قوله: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله)، بيان لمعنى: كفر الإحسان وكلمة: لو، شرطية ويحتمل أن تكون امتناعية بأن يكون الحكم ثابتا على النقيضين، ويكون الطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، و: الدهر، منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون المراد منه: مدة عمر الرجل، وأن يكون الزمان كله مبالغة، وليس المراد من قوله: (أحسنت)، خطاب رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطبا، كما في قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون) * (السجدة: 21). لأن المراد منه
(٨٤)