عمدة القاري - العيني - ج ٧ - الصفحة ١٧٦
ممتنعة، وإنما حصل المتأخرون علم ذلك منذ صار العلم في الكتب، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإما مسافر أو حاضر في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه، ومتى يأتي يومها بعد تسعة فيصح قولها: ما رأيته يصليها، وتكون قد علمت بخبره أو بخبر غيره أنه صلاها، أو المراد بما يصليها؛ ما يداوم عليها. فيكون نفيا للمداومة لا لأصلها. وقال ابن الجوزي، رحمه الله قوله: (فيفرض عليهم)، يحتمل على وجهين: أحدهما: فيفرضه الله تعالى. والثاني: فيعملوا به اعتقادا أنه مفروض. وقال ابن بطال: يحتمل حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، معنيين: أحدهما: أنه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقت فرض عليه قيام الليل دون أمته، لقوله في الحديث الآخر: (لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل على أنه كان فرضا عليه وحده، فيكون معنى قول عائشة: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل) أنه كان يدع عمله لأمته ودعاءهم إلى فعلهم معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلا، وقد فرضه الله عليه، أو ندبه إليه لأنه كان أتقى أمته وأشدهم اجتهادا. ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم؟ ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة في بيته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسوي الله، عز وجل، بينه وبينهم في حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيه سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة. الثاني: أن يكون خشي من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيا لله في مخالفته لنبيه وترك أتباعه متوعدا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال: * (واتبعوه لعلكم تهتدون) * (الأعراف: 851). وقال فيترك أتباعه * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور: 36). فخشي على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول كطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا بالمؤمنين رحيما بهم. فإن قيل: كيف يجوز أن تكتب عليهم صلاة الليل وقد أكملت الفرائض؟ قيل له: صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على أمته الاقتداء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعل في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبا، فالزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بفعله، لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس، أو يكون أن الله تعالى لما فرض الخمسين وحطها بشفاعته صلى الله عليه وسلم فإذا عادت الأمة فيما استوهبت والتزمت متبرعة ما كانت استعفت منه، لم يستنكر ثبوته فرضا عليهم، وقد ذكر الله تعالى فريقا من النصارى وأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم، ثم لامهم لما قصروا فيها بقوله تعالى: * (فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد: 72). فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، فقطع العمل شفقة على أمته.
9211 حدثنا عبد الله بن يوسف. قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذالك في رمضان.
.
هذا الإسناد بعينه مثل إسناد الحديث الأول.
قوله: (صلى ذات ليلة في المسجد) أي: صلى صلاة الليل في ليلة من ليالي رمضان. قوله: (ثم صلى من القابلة) أي: من الليلة الثانية، وفي رواية المستملي: (ثم صلى من القابل) أي: من الوقت القابل من الليلة القابلة. قوله: (من الليلة الثالثة أو الرابعة)، كذا رواه مالك بالشك، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب: (فصلى الناس بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا)، وفي رواية مسلم عن يونس عن ابن شهاب: (يتحدثون بذلك)، وفي رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب: (فلما أصبح تحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد من جوف الليل، فاجتمع أكثر منهم)، وزاد يونس (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا معه، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله). وفي رواية ابن جريج أيضا: (حتى كاد المسجد يعجز عن
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»