عبد الرزاق: أنه قال، الضمير يعود على عمر، رضي الله تعالى عنه، جزم بذلك الترمذي في (جامعه) حيث نسب ذلك إلى عمر في هذه القضية. قلت: لم يجزم الترمذي بذلك أصلا، ولا ذكر ما زاده نافع لابن جريج، وإنما لفظ الترمذي في (جامعه) في: باب من لم يسجد فيه، أي: في النجم، بعد روايته حديث زيد بن ثابت، وقال بعض أهل العلم: إنما السجدة على من أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها، واحتجوا بالحديث المرفوع، ثم قال: واحتجوا بحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قرأ سجدة على المنبر فنزل فسجد ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال: إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء، فلم يسجد ولم يسجدوا، انتهى. فهذا لفظ الترمذي، فلينظر من له بصيرة وذوق من دقائق تركيب الكلام، هل تعرض الترمذي في ذلك إلى زيادة نافع عن ابن عمر؟ أو ذكر أن الضمير في قوله: قال، يعود على عمر؟ ولو قال: مثل ما روى نافع عن ابن عمر ذكر الترمذي عن عمر مثله لكان له وجه ثم قال هذا القائل: واستدل بقوله: لم يفرض علينا، على عدم وجوب سجدة التلاوة. وأجاب بعض الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب، وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه.
قلت: أما الجواب عن قوله: لم تفرض علينا، فنحن أيضا نقول: لم يفرض علينا، ولكنه واجب، ونفي الفرض لا يستلزم نفي الواجب، وأما قوله: وتعقب.. إلى آخره، فلا نسلم أنه اصطلاح حادث، وأهل اللغة فرقوا بين الفرض والواجب، ومنكر هذا معاند ومكابر، والأحكام الشرعية إنما تؤخذ من الألفاظ اللغوية. وأما قوله: وما كان الصحابة يفرقون بينهما، دعوى بلا برهان، والصحابة هم كانوا أهل اللغة والتصرف في الألفاظ العربية، وهذا القول فيه نسبة الصحابة إلى عدم المعرفة بلغات لسانهم. وأما قوله: ويغني عن هذا قول عمر ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فقد أجبنا فيما مضى عن هذا بأنه: لا إثم عليه في تأخيره عن وقت السماع. فإن قلت: روى البيهقي من طريق ابن بكير: حدثنا مالك عن (هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجدوا معه، ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى فتهيأوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، وقرأها ولم يسجد ومنعهم). قال صاحب (التوضيح): ترك عمر، رضي الله تعالى عنه، مع من حضر السجود ومنعه لهم دليل على عدم الوجوب، ولا إنكار ولا مخالف، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) قلت: عروة لم يدرك عمر، رضي الله تعالى عنه، قال خليفة بن خياط: وفي آخر خلافة عمر بن الخطاب، يقال في سنة ثلاث وعشرين، ولد عروة بن الزبير، وعن مصعب بن الزبير: ولد عروة لست سنين خلت من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، فيكون منقطعا، وهو غير حجة. وأما ترك عمر السجود فقد ذكرنا أنه لمعنى من المعاني التي ذكرناها فيما مضى عن الطحاوي. وأما منعه لهم عن السجود على تقدير تسليم صحته، فيحتمل أنه كان يرى أن التالي إذا لم يسجد لا يسجد السامع أيضا، فيكون معنى المنع: إذا ما سجدت فلا تسجدوا أنتم أيضا. وروي عن مالك أنه قال: إن ذلك مما لم يتبع عليه عمر، ولا عمل به أحد بعده، وقال القائل المذكور أيضا: واستدل بقوله: (إلا أن نشاء)، على أن المرء مخير في السجود، فيكون ليس بواجب، وأجاب من أوجبه: بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفى بعده، ويرده تصريح عمر، رضي الله تعالى عنه، بقوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارا يدل على عدم وجوبه. قلت: لا شك أن مفعول: نشاء، محذوف، فيحتمل أن يكون ذلك: السجدة، يعني: إلا أن نشاء السجدة، ويحتمل أن تكون: القراءة، يعني: إلا أن نشاء قراءة السجدة، فلا يترجح أحد الاحتمالين إلا بمرجح، والأحاديث الواردة في هذا الباب تنفي التخيير، فيترجح المعنى الآخر، والجواب عن قوله: ويرده تصريح عمر.. إلى آخره، قد ذكرناه. وقال هذا القائل أيضا: واستدل به على من شرع في السجود وجب عليه إتمامه، وأجيب بأنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء بدليل إطلاقه، ومن لم يسجد فلا إثم عليه.
11 ((باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها)) أي: هذا باب في بيان حكم من قرأ سجدة التلاوة في الصلاة فسجد بها، أي: بتلك السجدة، وحكمه أن لا تكره قراءة