عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٤٨
فرفع العقوبة بكم عمن خرج، فنزلت الآية. وفي (تفسير النسفي): وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو، وفيه أيضا: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره، فنزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه، فقدم ذات يوم جمعة، وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب، فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم بقي في المسجد؟ فقالوا: اثني عشر رجلا وامرأة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء، وأنزل الله تعالى هذه الآية).
قوله: (انفضوا إليها) من الانفضاض، وهو التفرق. يقال: فضضت القوم فانفضوا أي: فرقتهم فتفرقوا. قال الزمخشري: كيف قال: إليها، وقد ذكر شيئين؟ قلت: تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وكذلك قراءة من قرأ: انفضوا إليه، وقراءة من قرأ لهوا أو تجارة انفضوا إليها. وقرئ: إليهما. انتهى. وقيل: أعيد الضمير إلى التجارة فقط لأنها كانت أهم إليهم. وقال الزجاج: يجوز في الكلام: انفضوا إليه وإليها وإليهما، ولأن العطف إذا كان ضميرا فقياسه عوده إلى أحدهما لا إليهما، وأن الضمير أعيد إلى المعنى دون اللفظ أي: انفضوا إلى الرؤية التي رأوها، أي: مالوا إلى طلب ما رأوه.
ذكر ما يستفاد منه: يستفاد من ظاهر حديث الباب أن القوم إذا نفروا عن الإمام وهو في صلاة الجمعة فصلاة من بقي وصلاة الإمام على حالها، فلذلك ترجم البخاري الباب بقوله: باب إذا نفر الناس.. إلى آخره. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في الإمام يفتتح صلاة الجمعة بجماعة ثم يتفرقون، فقال الثوري: إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقي واحد صلى أربعا. وقال أبو ثور: يصليها جمعة. انتهى. قلت: إذا اقتدى الناس بالإمام في صلاة الجمعة ثم عرض للناس عارض أداهم إلى النفور فنفروا وبقي الإمام وحده، وذلك قبل أن يركع ويسجد استقبل الظهر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، وإن بقي وحده. وبه قال المزني: في قول، وإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة، في قولهم جميعا، خلافا لزفر، فعنده: يصلي الظهر، وعند مالك: ان انفضوا بعد الإحرام ويئس من رجوعهم بنى على إحرامه أربعا، وإلا جعلها نافلة وانتظرهم، وإن انفضوا بعد ركعة، قال أشهب وعبد الوهاب: يتمها جمعة، وهو اختيار المزني. وقال سحنون: هو كما بعد الإحرام، فتشترط إلى الانتهاء. وقال إسحاق: إن بقي معه اثنا عشر صلى الجمعة، وظاهر كلام أحمد استدامة الأربعين.
وقال النووي: لو أحرم بالأربعين المشروطة ثم انفضوا، ففيه خمسة أقوال: أصحها: يتمها ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أحدهما: يتمها جمعة وحده، والثاني: إن صلى ركعة بسجدتيها أتمها جمعة. وقيل: إن بقي معه واحد أتمها جمعة، نص عليه في القديم وذكر ابن المنذر: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وهي رواية البويطي. وقال صاحب (التقريب): يحتمل أن يكتفي بالعبد والمسافر، وأقام الماوردي الصبي والمرأة مقامهما، فالحاصل بقاء الأربعين في كل الصلاة، هل هو شرط أم لا؟ قولان: فإن قلنا: لا، فهل يشترط بقاء عدد أم لا؟ فقولان: فإن قلنا: لا. فهل يفصل بين الركعة الأولى والثانية أم لا؟ قولان، فإن قلنا: نعم فكم يشترط؟ قولان: أحدهما: ثلاثة، والآخر، اثنان فإذا أردت اختصار ذلك؟ قلت: في المسألة خمسة أقوال: أحدها: يتمها ظهرا كيف ما كان، وهو الصحيح. والثاني: جمعة كيف ما كان. والثالث: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وإلا ظهرا. الرابع: إن بقي معه واحد أتمها جمعة. والخامس: إن انفضوا أو بعضهم بعد تمام الركعة بسجدتيها أتمها جمعة وإلا ظهرا.
قلت: الأصل أن الجماعة من شرائط الجمعة لأنها مشتقة منها. وأجمعت الأمة على أن الجمعة لا تصح من المنفرد إلا ما ذكر ابن حزم في (المحلى) عن بعض الناس: أن الفذ يصلي الجمعة كالظهر. ثم أقل الجماعة عند أبي حنيفة ثلاثة سوى الإمام، وبه قال زفر والليث بن سعد، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والثوري في قول وأبي ثور، واختاره المزني وعند أبي يوسف ومحمد: اثنان سوى الإمام. وبه قال أبو ثور والثوري في قول: وهو قول الحسن البصري، ثم الجماعة للجمعة شرط تأحكد العقد بالسجدة عند أبي حنيفة، وعندهما للشروع، وعند زفر يشترط دوامها كالوقت
(٢٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 243 244 245 246 247 248 249 250 251 252 253 ... » »»