عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٣٥
أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة كالصبح مثلا، ثم قال: وقد تولى رده ابن حبان في (صحيحه) فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى. قلت: هذا القائل نقل عن ابن المنير ما يقوي القول المذكور، حيث قال: لعله صلى الله عليه وسلم كان كشف له عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له في الخطاب. قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه، لأنه قد رآه لما قد دخل، وهذه تقوية جيدة بإنصاف. وما نقله عن ابن حبان ليس بشيء، لأن تكراره يدل على أن الذي أمره به من الصلاة الفائتة، لأن التكرار لا يحسن في غير الواجب، ومن جملة ما قال هذا القائل: وقد نقل حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، أنه دخل ومروان يخطب، فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما، ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما. انتهى. ولم يثبت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، ونقل أيضا عن شارح الترمذي أنه قال: كل من نقل عنه منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد، لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية. انتهى. قلت: قد ذكرنا أن الطحاوي روى عن عقبة بن عامر: الصلاة والإمام على المنبر معصية، وكيف يقول هذا القائل ولم يثبت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك؟ وإي مخالفة تكون أقوى من هذا حيث جعل الصلاة والإمام على المنبر معصية؟ وكيف يقول الشارح الترمذي: لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية؟ وأي تصريح يكون أقوى من قول عقبة حيث أطلق على فعل هذه الصلاة معصية؟ فلو كان قال: يكره أو لا يفعل لكان منعا صريحا، فضلا أنه قال: معصية وفعل المعصية حرام، وإنما أطلق عليه المعصية لأنها في هذا الوقت تخل بالإنصات المأمور به، فيكون بفعلها تاركا للأمر، وتارك الأمر يسمى عاصيا، وفعله يسمى معصية، وفي الحقيقة هذا الإطلاق مبالغة. فإن قلت: في سند أثر عقبة بن عبد الله بن لهيعة؟. قلت: ماله، وقد قال أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ وحدث عنه أحمد كثيرا، وقال ابن وهب: حدثني الصادق البار والله عبد الله بن لهيعة، وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم.
وقال هذا القائل أيضا: وأما ما رواه الطحاوي عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدل به الطحاوي، فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان، ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية، فدل على صحة ما قلناه، وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها، بل يدل على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم. قلت: هذا التعقيب متعقب لأنه ما ادعى تحريمها حتى يرد ما استدل به الطحاوي، ولم يقل هو ولا غيره بالحرمة، وإنما دعواهم أن الداخل ينبغي أن يجلس ولا يصلي شيئا، والحال أن الإمام يخطب، وهو الذي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقال هذا القائل أيضا: هذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي قتادة: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). قلت: قد أجبنا عن هذا بأنه مخصوص، وقال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ، ويعتقده صحيحا فيخالفه قلت: فرق بين التأويل والتخصيص ولم يقل أحد من المانعين عن الصلاة والإمام يخطب: أنه مؤول، بل قالوا: إنه مخصوص. وقال القائل المذكور: وفي هذا الحديث، أعني: حديث هذا الباب جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. قلت: من جملة الأوقات المكروهة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت استوائها، وحديث عقبة ابن عامر، رضي الله تعالى عنه: (ثلاث ساعات كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب). رواه مسلم والأربعة، فإن هذا الحديث بعمومه يمنع سائر الصلوات في هذه الأوقات من الفرائض والنوافل، وصلاة التحية من النوافل.
33 ((باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين)) أي: هذا باب ترجمته: من جاء... إلى آخره، وكلمة: من، في محل الرفع على الابتداء. وقوله: (صلى ركعتين) خبره. قوله: (والإمام يخطب)، جملة حالية.
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»