عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٣٢
قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته) فإن قلت: قال الدارقطني: أسنده عبيد بن محمد ووهم فيه. قلت: ثم أخرجه (عن أحمد بن حنبل حدثنا معتمر عن أبيه قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا فلان أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل، ثم انتظره حتى صلى). قال: وهذا المرسل هو الصواب. قلت: المرسل حجة عندنا، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو معشر (عن محمد بن قيس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، ثم عاد إلى خطبته).
الجواب الثاني: أن ذلك كان قبل شروعه، صلى الله عليه وسلم، في الخطبة. وقد بوب النسائي في (سننه الكبرى) على حديث سليك، قال: باب الصلاة قبل الخطبة. ثم أخرج عن أبي الزبير عن جابر قال: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي. فقال له، صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما).
الثالث: أن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضا في الخطبة لأنها شطر صلاة الجمعة أو شرطها. وقال الطحاوي: ولقد تواترت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من قال لصاحبه: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا، فإذا كان قول الرجل لصاحبه والإمام يخطب: أنصت، لغوا، كان قول الإمام للرجل: قم فصل لغوا أيضا، فثبت بذلك أن الوقت الذي كان فيه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمر لسليك بما أمره به إنما كان قبل النهي، وكان الحكم فيه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوا، وقال ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، وقال ثعلبة بن أبي مالك: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، إذا خرج للخطبة أنصتنا. وقال عياض: كان أبو بكر وعمر وعثمان يمنعون من الصلاة عند الخطبة.
وقال ابن العربي: الصلاة حين ذاك حرام من ثلاثة أوجه: الأول: قوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له) * (الأعراف: 204). فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض؟ الثاني: صح عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت). فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الركنان في المسألة يحرمان في حال الخطبة، فالنفل أولى أن يحرم. الثالث: لو دخل والإمام في الصلاة ولم يركع، والخطبة صلاة، إذ يحرم فيها من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وأما حديث سليك فلا يعترض على هذه الأصول من أربعة أوجه: الأول: هو خبر واحد. الثاني: يحتمل أنه كان في وقت كان الكلام مباحا في الصلاة، لأنا لا نعلم تاريخه، فكان مباحا في الخطبة، فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو آكد فرضية من الاستماع، فأولى أن يحرم ما ليس بفرض. الثالث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كلم سليكا وقال له: قم فصل، فلما كلمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع، إذ لم يكن هناك قول في ذلك الوقت إلا مخاطبته له وسؤاله وأمره. الرابع: أن سليكا كان ذا بذاذة، فأراد، صلى الله عليه وسلم، أن يشهره ليرى حاله.
وعند ابن بزيزة: كان سليك عريانا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يراه الناس. وقد قيل: إن ترك الركوع حالتئذ سنة ماضية وعمل مستفيض في زمن الخلفاء، وعولوا أيضا على حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، يرفعه: (لا تصلوا والإمام يخطب). واستدلوا بإنكار عمر، رضي الله تعالى عنه، على عثمان في ترك الغسل ولم ينقل أنه أمره بالركعتين، ولا نقل أنه صلاهما. وعلى تقدير التسليم لما يقول الشافعي، فحديث سليك ليس فيه دليل له، إذ مذهبه أن الركعتين تسقطان بالجلوس. وفي (اللباب): وروى علي بن عاصم عن خالد الحذاء أن أبا قلابة جاء يوم الجمعة والإمام يخطب، فجلس ولم يصل. وعن عقبة بن عامر. قال: (الصلاة والإمام على المنبر معصية). وفي (كتاب الأسرار): لنا ما روى الشعبي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صعد الإمام المنبر فلا صلاة، ولا كلام حتى يفرغ). والصحيح من الرواية: (إذا جاء أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام). وقد تصدى بعضهم لرد ما ذكر من الاحتجاج في منع الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة، فقال جميع ما ذكروه مردود، ثم قال: لأن الأصل عدم الخصوصية. قلنا: نعم، إذا لم تكن قرينة، وهنا قرينة على الخصوصية، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه النسائي عنه يقول: (جاء رجل يوم الجمعة والنبي، صلى الله عليه وسلم، يخطب بهيئة بذة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ قال: لا، قال:
(٢٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 227 228 229 230 231 232 233 234 235 236 237 ... » »»