عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٧٦
حينئذ. قوله: (إذا تكلم الإمام) أي: إذا شرع في الخطبة. وفي حديث قرثع الضبي: (حتى يقضي صلاته)، ونحوه في حديث أبي أيوب.
وأما الزيادة على الشروط السبعة المذكورة. فمنها: المشي وترك الركوب، وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والطبراني في (الكبير): (من اغتسل يوم الجمعة) الحديث، وفيه: (ثم مشى إلى الجمعة)، ولا شك أن المشي في السعي إليها أفضل إلا أن يكون بعيدا عن إقامتها وخشي فوتها فالركوب أفضل، وهل المراد بالمشي في الذهاب إليها فقط أو الذهاب والرجوع؟ أما في الذهاب إليها فهو آكد، وأما في الرجوع فهو مندوب إليه أيضا. ومنها: ترك الأذى، ففي حديث أبي أيوب: (ولم يؤذ أحدا). فإن قلت: قوله: (فلا يفرق بين اثنين) يغني عن هذا؟ قلت: الأذى أعم من التفريق بين الاثنين، فيحتمل أن يكون الأذى في المسجد، وفي طريق المسجد، ويدل عليه ما في حديث أبي الدرداء: (ولم يتخط أحدا ولم يؤذ)، والعطف يقتضي المغايرة، فهو من ذكر العام بعد الخاص. ومنها: المشي إلى المسجد، وعليه السكينة. وفي حديث أبي أيوب: (ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد)، والمراد به: التؤدة في مشيه إلى الجمعة وتقصير الخطا. ومنها: الدنو من الإمام، كما جاء في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة، ثم المراد بالدنو من الإمام هل هو حالة الخطبة أو حالة الصلاة إذا تباعد ما بين المنبر والمصلى مثلا؟ الظاهر أن المراد حينئذ الدنو منه في حالة الخطبة لسماعها، وفي حديث ابن عباس عند البزار والطبراني في (الأوسط): (ثم دنا حيث يسمع خطبة الإمام)، والحديث ضعيف. ومنها: ترك اللغو، وفي حديث عبد الله بن عمر، وعند أبي داود: (ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا). وفي حديث أبي طلحة عند الطبراني في (الكبير) (وأنصت ولم يلغ في يوم الجمعة) الحديث. واللغو قد يكون بغير الكلام، كمس الحصى وتقليبه بحيث يشغل سمعه وفكره، وفي بعض الأحاديث: (ومن مس الحصى فقد لغا). ومنها: الاستماع، وهو إلقاء السمع لما يقوله الخطيب. فإن قلت: الإنصات يغني عنه؟ قلت: لا لأن الانصات ترك الكلام، والاستماع ما ذكرناه، وقد يستمع ولا ينصت بأن يلقي سمعه لما يقوله وهو يتكلم بكلام يسير أو يكون قوي الحواس بحيث لا يشتغل بالاستماع عن الكلام، ولا بالكلام عن الاستماع، فالكمال الجمع بين الإنصات والاستماع.
قوله: (ما بينه وبين الجمعة الأخرى) أي: ما بين يوم الجمعة هذا وبين يوم الجمعة الأخرى. قوله: (الأخرى) يحتمل الماضية قبلها والمستقبلة بعدها، لأن الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب الغسل يوم الجمعة، وقوله: (لا يغتسل..) إلى آخره، وهو محمول على الغسل الشرعي عند جمهور العلماء، وحكي عن المالكية تجويزه بماء الورد، ويرده قوله: صلى الله عليه وسلم في (الصحيح) (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة). وفيه: استحباب تنظيف ثيابه يوم الجمعة. وفيه: استحباب الادهان والتطيب. وفيه: كراهة التخطي يوم الجمعة، وقال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك، وكان مالك لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. وفيه: مشروعية التنفل قبل صلاة الجمعة بما شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلى ما كتب له). وفيه: وجوب الإنصات لورود الأمر بذلك، واختلف العلماء في الكلام: هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ وهما قولان للشافعي قديم وجديد، قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة وعامة الفقهاء: يجب الإنصات للخطبة. وحكي عن الشعبي والنخعي: أنه لا يجب إلا إذا تلى فيها القرآن، واختلفوا إذا لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد والشافعي، في أحد قوليه: لا يلزمه. ولو لغا الإمام هل يلزمه الإنصات أم لا؟ فيه قولان. وفيه: أن المغفرة ما بينه وبين الجمعة الأخرى، مشروطة بوجود ما تقدم من الأمور السبعة المذكورة في الحديث فإن قلت: في حديث نبيشة: (يكون كفارة للجمعة التي تليها)، فما وجه الجمع بين الحديثين؟ قلت: يحتمل أن يحمل الحديثان على حالين، فإن كانت له ذنوب في الجمعة التي قبلها كفرت ما قبلها، فإن لم تكن له ذنوب فيها بأن حفظ فيها أو كفرت بأمر آخر إما بالأيام الثلاثة الزائدة على الأسبوع التي عينها في الحديث: (وزيادة ثلاثة أيام)، فتكفر عنه ذنوب الجمعة المستقبلة. فإن قلت: تكفير الذنوب الماضية: بالحسنات وبالتوبة وبتجاوز الله تعالى، فكيف يعقل تكفير الذنب قبل وقوعه؟ قلت: المراد عدم المؤاخذة به إذا وقع، ومنه ما ورد في مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر، ومنه حديث أبي قتادة في (صحيح مسلم): (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»