عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٧٢
التبكير إليها أول النهار، وبه قال الشافعي وابن حبيب المالكي، والساعات عندهم من أول النهار، والرواح يكون أول النهار وآخره. وقال الأزهري: لغة العرب أن الرواح: الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل، وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث، والمعنى: لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم في الثالثة، ثم في الرابعة، ثم في الخامسة، وفي رواية النسائي: السادسة، فإذا خرج إمام طووا الصحف ولم يكتبوا بعد ذلك. ومعلوم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة، فدل على أنه لا شيء من الفضيلة لمن جاء بعد الزوال، ولأن ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل الصف الأول وانتظارها والاشتغال بالتنفل والذكر، ونحو ذلك، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعد النداء. قلت: الحاصل أن الجمهور حملوا الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية، كما في سائر الأيام، وقد روى النسائي أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة)، وأما أهل علم الميقات فيجعلون ساعات النهار ابتداءها من طلوع الشمس، ويجعلون الحصة التي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حساب الليل، واستواء الليل والنهار عندهم إذا تساوى ما بين المغرب وطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس وغروبها، فإن أريد الساعات على اصطلاحهم فيكون ابتداء الوقت المرغب فيه لذهاب الجمعة من طلوع الشمس، وهو أحد الوجهين للشافعية. وقال الماوردي: إنه الأصح، ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب (المهذب) قبله، ثم الرافعي والنووي، ولهم وجه ثالث: إن التبكير من الزوال كقول مالك، حكاه البغوي والروياني. وفيه وجه رابع حكاه الصيدلاني: إنه من ارتفاع النهار، وهو وقت الهجير. وقال الرافعي: ليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه. قوله: (قرب بدنة) أي: تصدق ببدنة متقربا إلى الله تعالى، وقيل: المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان، لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم الماضية. وقيل: ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاووس، رواه عبد الرزاق: كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة، والبدنة تطلق على الإبل والبقر، وخصصها مالك بالإبل، ولكن المراد ههنا من البدنة الإبل بالاتفاق، لأنها قوبلت بالبقرة، وتقع على الذكر والأنثى. وقال بعضهم: المراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف. قلت: فيه نظر، فكان لفظ: الهاء، فيه غره، وحسب أنه للتأنيث، وليس كذلك، فإنه للوحدة كقمحة وشعيرة ونحوهما من أفراد الجنس، سميت بذلك لعظم بدنها. وقال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمونها. وحكى النووي عن الأزهري، أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم. قلت: هذا غلط، الظاهر أنه من النساخ، لأن المنقول الصحيح عن الأزهري، أنه قال: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم. قوله: (بقرة)، التاء فيها للوحدة. قال الجوهري: البقر اسم جنس، والبقرة تقع على الذكر والأنثى، وإنما دخله الهاء على أنه واحد من جنس، والبقرات جمع بقرة، والباقر جماعة البقر مع رعاتها، والبقر، وأهل اليمن يسمون البقرة: باقورة، وهو مشتق من: البقر، وهو: الشق فإنها تبقر الأرض أي: تشقها بالحراثة. قوله: (كبشا أقرن)، الكبش هو الفحل، وإنما وصف بالأقرن لأنه أكمل وأحسن صورة، ولأن القرن ينتفع به، وفيه فضيلة على الأجم. قوله: (دجاجة)، بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان، وحكى الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب: إنها بالفتح من الحيوان، وبالكسر من الناس. والدجاجة تقع على الذكر والأنثى، وسميت بذلك لإقبالها وإدبارها، وجمعها: دجاج ودجائج ودجاجات، ذكره ابن سيده. وفي (المنتهى) لأبي المعالي: فتح الدال في الدجاج أفصح من كسره، ودخلت الهاء في الدجاجة لأنه واحد من جنس، مثل: حمامة وبطة ونحوهما، وكما جاءت الدال مثلثة في المفرد، فكذلك يقال في الجمع: الدجاج
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»