عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٤٦
حتى تخرج من الأرض وتسير فيها وروي أن من أصلها تخرج أربعة أنهار: نهران باطنان وهما: السلسبيل والكوثر، ونهران ظاهران، وهما: النيل والفرات، وعن ابن عباس: هي عن يمين العرش. وقال ابن قرقول: إنها أسفل العرش لا يجاوزها ملك ولا نبي، وفي الأثر إليها ينتهي ما يعرج من الأرض وما ينزل من السماء، فيفيض منها. وقيل: ينتهي إليها علم كل ملك مقرب ونبي مرسل. وقال كعب: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا ا. وقيل ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقيل: إن روح المؤمن ينتهي به إليها فتصلي عليه هناك الملائكة المقربون. قاله ابن سلام في تفسيره، قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أدخلت الجنة) يدل على أن السدرة ليست في الجنة، وقال ابن دحية: ثم في هذا الحديث في مواضع ليست للترتييب، كما في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 71) إنما هي مثل: الواو، للجمع والاشتراك، فهي بذلك خارجة عن أصلها.
قوله: (حبائل اللؤلؤ) كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع، بالحاء المهملة، ثم الموحدة وبعد الألف ياء آخر الحروف ساكنة، ثم لام. وذكر جماعة منهم أنه تصحيف، وإنما هو: جنابذ، بالجيم والنون وبعد الألف باء موحدة ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في أحاديث الأنبياء عليهم السلام، ومن رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة. وقال ابن الأثير: إن صحت رواية: حبائل، فيكون أراد به مواضع مرتفعة كحبال الرمل، كأنه جمع: حبالة، وحبالة جمع: حبل، على غير قياس، وفي رواية الأصيلي عن الزهري: (دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ). وقال ابن قرقول: كذا لجميعهم في البخاري حبائل، ومن ذهب إلى صحة الرواية، قال: إن الحبائل القلائد والعقود، أو يكون من حبال الرمل أي: فيها اللؤلؤ كحبال الرمل، وهو جمع حبل، وهو الرمل المستطيل، أو من الحبلة وهو ضرب من الحلي معروف. وقال صاحب (التلويح): وهذا كله تخيل ضعيف، بل هو بلا شك تصحيف من الكاتب، والحبائل إنما تكون جمع: حبالة، أو حبلة. و: الجنابذ، جمع: جنبذ، بضم الجيم وسكون النون وبالموحدة المضمومة وبالذال المعجمة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، والعامة تقول بفتح الباء، والأظهر أنه فارسي معرف. قلت: هو في لسان العجم: كنبذ، بضم الكاف الصماء وسكون النون وفتح الباء الموحدة: وهي القبة.
ذكر إعرابه وما يتعلق بالبيان: قوله: (وأنا بمكة) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (ممتلئ حكمة وإيمانا) ممتلئ: بالجر، صفة: طست، وتذكيره باعتبار الإناء، لأن الطست مؤنثة. وكلمة؛ من في: من ذهب، بيانية و: (حكمة وإيمانا) منصوبان على التمييز، وجعل الإيمان والحكمة في الإناء وإفراغهما مع أنهما معنيان، وهذه صفة الأجسام من أحسن المجازات، أو أنه من باب التمثيل، أو؛ تمثل له المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها، ومعنى المجاز فيه كأنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمى ذلك الشيء حكمة وإيمانا لكونه سببا لهما. قوله: (فعرج بي إلى السماء) ويروى: (فعرج به)، بضمير الغائب، وهو من باب التجريد، فكأن النبي جرد من نفسه شخصا فأشار إليه. وفيه وجه آخر، وهو أن الراوي نقل كلامه بالمعنى لا بلفظه بعينه. وقال بعضهم: فيه التفات. قلت: هو تجريد كما قلنا. قوله: (أأرسل إليه؟) بهمزتين: أولاهما: للاستفهام وهي مفتوحة والثانية: همزة التعدي، وهي مضمومة.
وفي رواية الكشميهني: (أو أرسل إليه)؟ بواو مفتوحة بين الهمزتين، وهذا السؤال من الملك الذي هو خازن السماء يحتمل وجهين: أحدهما الاستعجاب بما أنعم ا عليه من هذا التعظيم والإجلال حتى أصعد إلى السماوات، والثاني: الاستبشار بعروجه إذا كان من البين عندهم أن أحدا من البشر لا يرقى إلى أسباب السماء من غير أن يأذن ا له، ويأمر ملائكته بإصعاده. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته. قلت: كيف يخفى عليه ذلك لاشتغاله بعبادته، وقد قال أولا: من هذا؟ حين قال جبريل: إفتح. وقال أيضا: هل معك أحد؟ قال جبريل: نعم معي محمد؟ وأين الخفاء بعد ذلك؟ وأين الاشتغال بالعبادة في هذا الوقت وهو وقت المحاورة والسؤال؟ وأمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لأنها لا تخفى على خزان السماوات وحراسها، فصح أن لا يكون السؤال عن أصل الرسالة، وإنما كان سؤالا عن أنه أرسل إليه للعروج. والإسراء، فحينئذ احتمل سؤالهم الوجهين المذكورين.
فإن قلت: جاء في رواية شريك: (أو قد بعث؟) وهذا يؤيد ما قاله هذا القائل. قلت: معنى: أرسل وبعث سواء، على أن المعنى ههنا أيضا: أو قد بعث إلى هذا المكان؟ وذلك استعجاب منه واستعظام لأمره. قوله: (علونا السماء الدنيا)، ضمير الجمع فيه يدل على أنهما كان معهما ملائكة آخرون، فكأنهما كلما عد يا سماء تشيعهما الملائكة إلى أن يصلا إلى سماء أخرى؛ والدنيا،
(٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 ... » »»