عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ١٣٢
العلم من العباد بعد أن يتفضل به عليهم، ولا يسترجع ما وهب لهم من العلم المؤدي إلى معرفته وبث شريعته، وإنما يكون انتزاعه بتضييعهم العلم فلا يوجد من يخلف من مضى، فأنذر صلى الله عليه وسلم بقبض الخير كله، وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: (لما كان في حجة الوداع قال النبي، صلى الله عليه وسلم: خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع، فقال أعرابي: كيف يرفع؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته، ثلاث مرات) وقال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه. قوله: (بغير علم)، وفي رواية أبي الأسود في الاعتصام عند البخاري: (فيفتون برأيهم). قوله: (جهالا) فإن قلت: المراد بهذا الجهل: الجهل البسيط، وهو عدم العلم بالشيء لا مع اعتقاد العلم به، أم الجهل المركب وهو عدم العلم بالشيء مع اعتقاد العلم به؟ قلت: المراد هنا القدر المشترك بينهما المتناول لهما. فإن قلت: أهذا مختص بالمفتين، أم عام للقضاة الجاهلين؟ قلت: عام، إذ الحكم بالشيء مستلزم للفتوى به.
بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دلالة للقائلين بجواز خلو الزمان عن المجتهد على ما هو مذهب الجمهور خلافا للحنابلة. الثاني: فيه التحذير عن اتخاذ الجهال رؤوسا. الثالث: فيه الحث على حفظ العلم والاشتغال به. الرابع: فيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذم من يقدم عليها بغير علم. الخامس: قال الداودي: هذا الحديث خرج مخرج العموم. والمراد به الخصوص، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله). ويقال هذا بعد إتيان أمر الله تعالى إن لم يفسر إتيان الأمر بإتيان القيامة، أو عدم بقاء العلماء إنما هو في بعض المواضع كفي غير بيت المقدس مثلا إن فسرناه به، فيكون محمولا على التخصيص جمعا بين الأدلة.
قال الفربري: حدثنا عباس قال: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير عن هشام نحوه.
هذا من زيادات الراوي عن البخاري في بعض الأسانيد وهي قليلة. والفربري، بكسر الفاء وفتحها وفتح الراء وإسكان الباء الموحدة: نسبة إلى فربر، وهي قرية من قرى بخارى على طرف جيحون، وهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر. وقال الكلاباذي: كان سماع الفربري من البخاري (صحيحه) مرتين: مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة ببخارى سنة ثنتين وخمسين ومائتين. ولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ومات سنة عشرين وثلاثمائة، سمع من قتيبة بن سعيد فشارك البخاري في الرواية عنه، قال السمعاني في (أماليه): وكان ثقة ورعا. وعباس: هو ابن الفضل بن زكريا الهروي أبو منصور البصري ثقة مشهور من الثانية عشر، بل من التي بعدها ولد بعد موت ابن ماجة، ومات سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، من (أسماء الرجال) لابن حجر. وقتيبة: هو ابن سعيد أحد مشايخ البخاري، وقد تقدم. وجرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، أبو عبد الله الرازي ثم الكوفي، ثقة، روى له الجماعة. وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام، وقد تقدم.
قوله: (نحوه)، أي نحو حديث مالك، ورواية الفربري هذه أخرجها مسلم عن قتيبة عن جرير عن هشام به.
36 ((باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم)) أي: هذا باب، وهو منون، وهل، للاستفهام: و: يجعل، على صيغة المجهول. و: ويوم، بالرفع مفعول له ناب عن الفاعل، وهذه رواية الأصيلي وكريمة؛ وفي رواية غيرهما: يجعل، على صيغة المعلوم. أي: يجعل الإمام. و: يوما، بالنصب مفعوله. قوله: (على حدة)، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الدال، أي: على انفراده، وهو على وزن العدة. قال الجوهري: تقول أعط كل واحد منهم على حدة، أي: على حياله، والهاء عوض من الواو. قلت: لأنه من: وحد يحد وحودا ووحودة ووحدا ووحدة وحدة.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق هو كيفية قبض العلم، ومن فوائده الحث على حفظ العلم، ومن فوائد حديث هذا الباب أيضا الحث على حفظ العلم، وذلك أن النساء لما سألن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أن يجعل لهن يوما، ووعدهن يوما يأتي إليهن فيه، أتاهن فيه وحثهن على حفظ العلم، وهذا القدر كاف في رعاية المناسبة.
(١٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 ... » »»