وقد جاء في الخطبة التي مضى بعضها عن علي (عليه السلام) أنه يقول: فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله)، فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبي أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.
ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله. ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: " يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ". فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكي لا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه؟! فإن قال: أهانه فقد كذب - والله العظيم - بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه. فتأسى متأس بنبيه واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا (صلى الله عليه وآله) علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه. فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه وقائدا نطأ عقبه! والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟! فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم