ترجمة صاحب الديوان الفصل الثالث في العتاب 19 - قال رحمه الله مجيبا على القصيدة (النونية) التي وردته من بعض أخدانه الأعزاء معاتبا بها إياه، واليك الرسالة والقصيدتين:
أما بعد افتتاح الانشاء بمفروض الحمد وواجب الثناء أقول: إن أفقر من الاصغاء ذلك السمع المأهول. أيها الماجد الذي عوذته بنات الأفكار برقي القريض حينا، من نزعات شيطان هذا الشيخ الذي أصبح له اليوم قرينا، وساء قرينا، وغادر منثور ذكره في الصالحات دفينا، ويا حرسه الله قبل الممات إذ لو استمر على اصطناع المعروف والمكارم لكان حسنة الدنيا، ولو لم يلق السمع لاتباع مقالة اللوائم لكان قطب دائرة العليا، الحديث ذو شجون، وسيبصر أهل الانصاف بأينا المفتون، وان لي ولك في طي هذا الامر الغريب، لشأنا من أعجب الأعاجيب، قد أوجب نشره، من سير بدالة المرح ومخيلة الكبرياء شعره، عجبا لك كيف لم تجذب إليك من عنان خيلائك، ولم تكفكف من بادرة عزمك وغلوائك، بل تركت لهاتيك عنانها، وأوسعت لهذه خطاها وميدانها، حتى اقرعت بمسامعي مؤلم هذا التقريع، وجرعتني مضاضة ذلك التعريض الشنيع، فمبجدك ما الذي أخفضك وأنت الوقور، وما الذي لمظك ممقر هذا التعريض وأنت الابي الغيور، بلى وأنا أملك السجية، التي عاشت على معروفها البرية، ما دعاك إلى أن تظهر أنك لي مغاضب، إلا الهرب من إسداء العطايا والمواهب، حيث استنشأتك قبل هذا سحابة، خلتها نشأت دانية الربابة، قد بشر بها نفسه الرجاء، واستمطرها بظنه مغدقة وطفاء، فكلما تطلع في نواحيها، استحكم طمعه فيها، وأمل أن ترخى بشآبيبها الغزار عز إليها، فإذا هي تبرق غيضا وغضبا، وترعد تقريعا وعتبا، ثم لم تبرح بهاتيك البوارق، أن أمطرتها علي صواعق وأي صواعق، فليتك إذ ترفعت كزعمك عن مدحي الانفة، رعيت لي حرمة المدح السالفة، فلقد علم هذا العصر، أني لسانه الذي انتهت إليه مقالة الشعر:
وأنا الذي لم يسخ بي أحد * إلا غدا ونديمه الندم وإذا اهتززت لمدح ذي كرم * فأنا لسان والزمان فم قد نشرت لكم من الذكر الجميل، ما لم ينشره لسان الشعر لذي مجد أثيل، حتى صرت لكم في المدح أعرف من علم، بل أشهر من (زهير بن أبي سلمى) في مدائح هرم، كم نسجت لأبيكم برد حمد، لم ينسج قبلي مثله (ابن برد)، وكم سيرت فيكم من النظام، ما لم يسيره قبلي الشيخ (أبو تمام) بلا يد بيضاء، ولا عارفة غراء، بل جعلتم قيمة تلك العقود، وأثمان هاتيك البرود، ما لو رسم معها في كتب المؤرخين، كما ترسم الجوائز مع قصائد المتقدمين، يتداولها الأنام جيلا بعد جيل، لغض بنزارته من شرفكم المحض ومجدكم الأثيل، بل لو لم أكتم عن الحساد، ما جعلتموه بأزائها من الصفاد، لو سمت تلك الغرر البهية، بسمات ردية، كما وسمت قصيدة (أبي الطيب) لنزارة الجائزة بالدينارية، وعلى حقارة الجزاء ونزارة ما أسديتموه من العطاء، رأيتك قد أعرضت غاية الاعراض، وأغمضت عن حقوق المودة أشد الاغماض، بلا إساءة سبقت، ولا جناية تقدمت، فنظمت قطعة من العتاب، يروق بنشرها ذوو الألباب، وأرسلتها إليك، مخاطبا لك بلسان العتب عليك، فقلت:
حتى م الود بالهجران * وإلى م أبسط بالعتاب لساني لا أنت عن غلواء (901) هجرك مقصر * شيئا ولا أنا عن عتابك واني كم ذا أنبه منك من لم ينتبه * عن مثله في الفضل طرف زمان (902) ما زال يصرف عن وجوه مطالبي * عينا رعى القاصي بها والداني الغيث أنت فكيف تجدب راحتي * منه وتخصب راحة الذلان وأما ومجدك ما تيقظ للنهي * من لم يكن لي قط باليقظان بل أي ركن للمعالي شاده * من لا يكون مشيدا أركاني أخذت بمخنقي الخطوب فضيقت * صدري فضاق بها إليك بياني فتلاف من أيدي الخطوب بقيتي * فبقيتي لك يا عظيم الشأن عجبا لكفك كيف تمسح غرة * من غير سابق حلبة لرهان من ذا لكم عني ينوب إذا جرت * يوما جياد الشعر في ميدان ومن الذي ينشي لجيد علاكم * مدحا يفصلها عقود جمان فبم اقتنعت وهل ترى يغني الحصى * لمن ابتغي حليا عن المرجان أرتجت بالاعراض باب رويتي * وعقلت في شطن الصدود لساني وتركت عيني من جفاك سقيمة * الإبصار وهي صحيحة الانسان ما إن (903) زففت من الولاء كريمة * إلا وتمهرها من الحرمان فأصخ لعاتبة تجايش صدرها * فأتتك تنفث عن حشا حران قد حاكمتك إليك فاقض بحقها * فلقد أتتك بواضح البرهان وشكتك عندك والعجيب جناية * منها اشتكى متظلم للجاني بين الرجا واليأس قد وقفت فقل: * من ذين تنزلها بأي مكان