لم يبتكر الإنسان الكتابة، ويسجل بواسطتها المعارف والخبرات والقوانين التي يكتشفها، فيحفظها ويصنفها ويبقى على صلة مستمرة بها، ينقحها ويصححها ويضيف إليها، ومن ثم يسلمها لمن يخلفه من الأجيال اللاحقة، لكي تستلهم منها، وتتكئ عليها في كل خطوة تخطوها نحو التكامل.
ولذلك أضحت الكتابة منذ أن اعتمدها الإنسان القناة الأساسية لنقل المعرفة وحفظها، والجسر الذي عبرت منه الحضارات ونتاجاتها نحو الزمن الآتي، حيث يجري هضمها واستيعاب معطياتها وإعادة تركيبها وتكييفها في ضوء متطلبات الواقع المتجدد.
لقد كانت الكتابة رمزا للتفكير، وشفرة للحضارة، فالشعوب التي لم تكتشف الكتابة حتى وقت متأخر من حياتها، انخفض إسهامها في حركة التطور والاكتشاف، لأن التطور يقوم على التراكم المعرفي، ولا سبيل لتجميع وحفظ وتراكم المعارف من دون كتابة.
من هنا اتفق الباحثون في التأريخ القديم على أن " ظهور الكتابة هو الحد الذي يعين بداية التأريخ، تلك البداية التي يتراجع عهدها كلما اتسعت معارف الإنسان بآثار الأولين " (1).
ويظل الشعب الذي احتضن التجربة الأولى للكتابة، هو الشعب الشاهد على بداية التأريخ، والمحقق لأعظم إنجاز عرفته البشرية في وقت مبكر من عصورها التأريخية.
ولئن كان أول من ترك لنا تراثا مهما مكتوبا هم السومريون، كما يذهب معظم الباحثين في تأريخ ظهور الكتابة أو غيرهم، فإننا يمكن أن نقول بوضوح:
بأن أول من كتب هو أول من وعى الحياة وعيا آخر لم يشهده من سبقه، وبتعبير آخر: