مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٢٩ - الصفحة ٩١
وحكي أنه بعض علماء اللغة قد كفى نفسه مؤونة العيش كما يعش سائر العلماء من الأوقاف والجرايات والوجوه الشرعية، فكان ينسخ في كل يوم بعد صلاة الصبح عشرة أوراق ويبعث بها من يبيعها له بعشرة دراهم هي كفاف يومه، ثم يخرج إلى مجلس درسه خالي البال من هموم العيش.
وكانت لهم مع صناعتهم حالات عبروا عنها في أواخر النسخ التي خطتها أقلامهم.
فمنهم من نظر إلى النسخ من ناحية المسؤولية، فعده عملا يسأل عنه فاعله يوم لقاء الله سبحانه، وحذر من كتابة ما لا يرضي الله تعالى.
ومنهم من نظر إلى هذا العمل من ناحية نقص الإنسان وكثرة أخطائه، فطلب إصلاح ما وهم هو فيه، وقطع بأن نسخته التي خطتها يمينه ليست خالية من الخطأ، واعتذر بعدم العصمة، وبين أن نسخته كثيرة الأخطاء بحيث إنه كلما تصفحها وجد فيها خطأ.
ومنهم من استلهم العظة من هذه الحياة الدنيا، فأشار إلى قصرها ببقاء خطه زمانا طويلا وموته هو، فأشار من طرف خفي إلى أنه واجب الإنسان أن يصلح أعماله ليخرج من الدنيا نقي الجيب.
ومنهم من رأى أن لا نجاة من شر النفس الأمارة بالسوء وشر ما تزينه من نسخ الضلال وتخليده وإضرار الناس به.. لا نجاة إلا بالاعتصام بالله تعالى.
ونجد فيهم من فرح بتمام كتابه واستراحته من عناء النسخ، وزاد فرحه بإحراز الثواب الذي هو للمجدين المخلصين في عمارة بلاد الله وتبصير عباده.
ومنهم الحريص على عياله والناظر لحاجاتهم، فعد كتابه سلعة يورثها لهم فيبيعونه بثمن جيد، فاجتهد في تجويد نسخه وصرف نفيس عمره على ذلك، لكي لا يبور كتابه بعد موته.
وآخر محدود محارف، ضجر من تعب النسخ وقلة الربح، فأداه ذلك
(٩١)
مفاتيح البحث: الموت (1)، الضلال (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 ... » »»
الفهرست