فصل (أسرار علم الحروف) ولما كان سر الله مودعا في خزانة علم الحروف وهو علم مخزون، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، ولا يناله إلا المقربون، لأنه منبع أسرار الجلال، ومجمع أسماء الكمال، افتتح الله به السور، وأودعه سر القضاء والقدر، وذلك بأن الله تعالى لما أراد إخراج الوجود من عالم العدم إلى عالم الكون، أراد العلويات والسفليات باختلاف أطوار تعاقب الأدوار وأبرزها من مكامن التقدير، إلى قضاء التصوير، عبأ فيها أسرار الحروف التي هي معيار الإقرار، ومصدار الآثار، لأن الباري تعالى بالكلمة تجلى لخلقه وبها احتجب ثم أوجد طينة آدم في العمل الذي هو عبارة عن الاختراع الأول، من غير مثال، ولا تعديل تمثال، ثم ركز في جبلة العملي (العماء خ. ل) نسبة من تلك الحروف ورتبها حتى استشرق منها في عالم الإيجاد، بلطائف العقل لإشراق الظهور، ثم نقله بعد ذاك في أطوار الهباء الذي هو عبارة عن الاختراع الثاني، ورتب فيه رتبة من الحروف التي ركزها في جبلة العملي (العماء خ. ل) حتى استشرقها في عالم الإيجاد بلطايف روحه في الاحتراق الثاني، ثم نقله بأطوار الذر الذي هو عبارة عن الإبداع الثاني، وأوجد فيه نسبة من الحروف التي وضعها في جبلتها الفطرية، حتى استشرق بها في عالم الإيجاد بلطايف القلب في الإبداع الثاني.
فالحروف معانيها في العقل، ولطايفها في الروح، وصورها في النفس، وانتقاشها في القلب، وقوتها الناطقة في اللسان، وسرها المشكل في الأسماع. ولما كان المخاطب الأول هو المخترع الأول، وهو العقل النوراني، كان خطاب الحق بما فيه من معاني الحروف. ومجموع هذه الحروف في سر العقل كان ألفا واحدا لأنه بالقوة الحقيقية مجموع الحروف، وهو الذي سمع أسرار العلوم بحقيقة هذه الحروف قبل سائر الأشياء، والعقل هو صاحب الرمز والإشارة، والحقيقة والإيماء، والإدراك. والحروف في لطيفة الروح شكل الضلعين من أضلاع المثلث المتساوي الأضلاع، ضلع قائم، وآخر مبسوط على هذه الصورة، والقائم ضلع الألف، والمبسوط ضلع الباء. وإنما قلنا بأن الحروف في لطيفة الروح شكل ضلعين، لأن فيض الأنوار البسيطة التي في العقل بالفعل هي في الروح بالقوة فاتفقا في وجود الأسرار، وتباينا في اختلاف الأطوار. ومن حيث إن الروح تستمد من العقل، والنفس تستمد من الروح، وجميع الأنوار العلوية تستمد من نور العرش، كذلك سائر الحروف تستمد من نور الألف،