وإذن، فالتاريخ هو حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان، وقد يعالج التاريخ حركة الإنسان في مجتمع معين أو في إطار ثقافة معينة، وقد يتسع ليعالج حركة الإنسان على صعيد عالمي.
ولا شك في أن فكرة العالمية لدى المؤرخين المسلمين قد جاءتهم من القرآن الكريم حيث صور حركة الإنسانية من خلال عرضه لحركة النبوات في الأمم والشعوب، كما أنهم استفادوا في تعزيز نظرتهم العالمية من علم الأنساب الذي تحدر إليهم من التقليد الجاهلي القديم، ثم دخل - كغيره من المعارف العربية والإسلامية - عصر التدوين. وليس المهم هنا جانب الصدق التاريخي في علم الأنساب، وهو أمر مشكوك فيه، وإنما المهم ما تعطيه المعرفة النسبية من إدراك لترابط الشعوب والقبائل وعلاقاتها الداخلية، هذا الإدراك الذي يتجاوز بالمؤرخ حدود الجغرافيا والقبلية أو القومية ليفتح بصيرته على مدى أرحب.
على هذا المدى الرحب كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يتعامل مع التاريخ، لا كمؤرخ وإنما باعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة وحاكما، ولم يكن يستخدم التاريخ كمادة وعظية فقط وإنما كان يستهدف أيضا منه النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع.
ونحاول في هذا الكتاب أن نجلو نظرة الإمام علي (ع) إلى حركة التاريخ، ونكتشف أساليب تعامله مع التاريخ في حياته العامة الفكرية والسياسية.
والمصدر الأساس لهذه الدراسات هو كتاب نهج البلاغة، وربما استعنا بنصوص أخرى لم يضمنها الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة للتعرف على مزيد من التفاصيل بالنسبة إلى نظرة الإمام التاريخية أو لإكمال نصوص أوردها الشريف الرضي في نهج البلاغة مبتورة.
ونحن نرى أن كتاب نهج البلاغة وثيقة عظيمة القيمة في الحضارة الإسلامية من الناحية الفكرية والسياسية. ولا ينقضي أسفنا على أن الشريف الرضي رحمه الله قد جمع النصوص لغاية جمالية تحكمت في اختياره فجعلته يؤثر النصوص الممتازة من النواحي البلاغية الفنية ويهمل ما عداها وقد يجزئ - لهذا السبب - من النص بعضه الذي تتوفر فيه هذه الخاصة ويهمل سائره، وهذا ما دعاه إلى أن يعطي كتابه اسما