فأجابه، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله خالفك الفقهاء! فقال له الشافعي: وهل رأيت فقيها قط؟ اللهم إلا أن يكون رأيت محمد بن الحسن، فإنه كان يملأ العين والقلب، وما رأيت مبدنا قط أذكى من محمد بن الحسن. ووقف رجل على المزني فسأله عن أهل العراق، فقال له: ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: سيدهم، قال: فأبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث، قال: محمد بن الحسن؟ قال: أكثرهم تفريعا، قال: فزفر؟ قال: أحدهم قياسا. وكان الشافعي رحمه الله يقول: ناظرت محمد بن الحسن وعليه ثياب رقاق، فجعل تنتفخ أوداجه ويصيح حتى لم يبق له زر إلا انقطع.
وكان يقول: ما ناظرت أحدا إلا تمعر وجهه، ما خلا محمد بن الحسن رحمه الله.
ولو لم نعرف لسانهم لحكمنا أنهم من الملائكة: محمد بن الحسن في فقهه، والكسائي في نحوه، والأصمعي في شعره. وروي عن الشافعي أنه قال: ما رأيت أحدا سئل عن مسألة فيها نظر إلا تغير وجهه غير محمد بن الحسن، ولما مات عيسى بن أبان بيعت كتبه أوراقا، كل ورقة بدرهم، لأنه كان درس على محمد بن الحسن وعلق العلل والزكاة على الحواشي. وروى عن أحمد بن حنبل قال: إذا كان في المسألة قول ثلاثة لم تسع مخالفتهم فقلت: من هم؟ قال: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، فأبو حنيفة أبصر الناس بالقياس، وأبو يوسف أبصر الناس بالآثار، ومحمد أبصر الناس بالعربية. وعن محمد بن شجاع الثلجي أنه قال: لو قام الحسن بن زياد لأهل الموسم لأوسعهم سؤالا، ولو قام بهم محمد بن الحسن لأوسعهم جوابا. وعن أبي جعفر الهندواني: يحكي عن أبي يوسف أن محمد بن الحسن كتب إليه من الكوفة - وأبو يوسف ببغداد -: أما بعد فإني قادم عليك لزيارتك، فلما ورد عليه كتاب محمد بن الحسن " خطب " أبو يوسف ببغداد وقال: إن الكوفة قد رمت إليكم أفلاذ كبدها، فهذا محمد بن الحسن قادم عليكم، فهيئوا له العلم.
ولد محمد بن الحسن بواسط سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومات بالري سنة تسع وثمانين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
قلت: وزرت قبريهما. ومات معه أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي في يوم واحد فقال الرشيد: دفنت اليوم اللغة والفقه. وأنشد اليزيدي يرثيهما:
أسيت على قاضي القضاء محمد * فأذريت دمعي والعيون هجود وقلت إذا ما الخطب أشكل: من لنا * بإيضاحه يوما وأنت فقيد؟
وأقلقني موت الكسائي بعده * وكادت الأرض الفضاء تميد