سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١٧ - الصفحة ٥٣٥
ومن وصية ابن سينا لأبي سعيد، فضل الله الميهني: ليكن الله تعالى أول فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره، ولتكن عينه مكحولة بالنظر إليه، وقدمه موقوفة على المثول بين يديه، مسافرا بعقله في الملكوت الاعلى وما فيه من آيات ربه الكبرى، وإذا انحط إلى قراره، فلينزه الله في آثاره، فإنه باطن ظاهر تجلى لكل شئ بكل شئ، وتذكر نفسه (1)، وودعها، وكان معها كأن ليس معها، فأفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة، وأزكى السر الاحتمال، وأبطل السعي (2) الرياء، ولن تخلص النفس عن الدون ما التفتت إلى قيل وقال وجدال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما انفرج عن علم، ومعرفة الله أول الأوائل، إليه يصعد الكلم الطيب. إلى أن قال: والمشروب فيهجر تلهيا لا تشفيا (3)، ولا يقصر في الأوضاع الشرعية، ويعظم السنن الإلهية (4).
قد سقت في " تاريخ الاسلام " أشياء اختصرتها، وهو رأس الفلاسفة الاسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الاسلام والسنة.
وله كتاب " الشفاء "، وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب " المنقذ من الضلال " (5)، وكفر الفارابي.

(1) أسقط المؤلف من الوصية قبل هذه الجملة ما لا يتم المعنى إلا به. انظر " عيون الانباء في طبقات الأطباء " 445.
(2) تحرفت في " عيون الانباء " إلى " السهي " بالهاء.
(3) في " عيون الانباء " زيادة: وتداويا.
(4) انظر نص هذه الوصية في " عيون الانباء " 445، 446.
(5) يقول شيخ الاسلام رحمه الله في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " 1 / 8 وهو بصدد البحث عن انحراف الفلاسفة: ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان: طريقة التبديل وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل، فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل، فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة، بأمور غير مطابقة للامر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا، وعقابا محسوسا، وإن كان الامر ليس كذلك في نفس الامر، لان من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الامر هكذا، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق.
وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل، كالقانون الذي ذكره في رسالته الأضحوية ص 44 - 51. وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الامر كذبا وباطلا ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة. ثم من هؤلاء من يقول: النبي كان يعلم الحق ولكن أظهر خلافه للمصلحة. ومنهم من يقول: ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم، وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي، ويفضلون الولي الكامل الذي له هذا المشهد على النبي، كما يفضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء في زعمه على الأنبياء، وكما يفضل الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف على النبي.
وأما الذين يقولون: إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون: إن النبي أفضل من الفيلسوف، لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف، وابن سينا وأمثاله من هؤلاء. وهذا في الجملة قول المتفلسفة والباطنية، كالملاحدة الإسماعيلية، وأصحاب رسائل اخوان الصفا، والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد، وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة، كابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقطان. وخلق كثير غير هؤلاء.
وقد خص شيخ الاسلام قسما كبيرا من هذا الكتاب العظيم في تتبع سقطات ابن سينا وضلالاته، وبيان ما فيها من زيف وانحراف بالحجة والبرهان على طريقة السلف الصالح من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من الأئمة والعلماء المشهود لهم بالعلم والايمان والاستقامة والعرفان.
(٥٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 530 531 532 533 534 535 536 537 538 539 540 ... » »»