والعبارة وطلب الجاه والعلو في المنزلة أنه صار على الضد (1) وتصفى عن تلك الكدورات وكنت أظن أنه متلفع بجلباب التكلف متنمس بما صار إليه فتحققت بعد السبر والتقتير أن الأمر على خلاف المظنون وأن الرجل أفاق (2) بعد الجنون وحكى لنا في ليال له فيه أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوكه طريق التأله وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم واستطالته على الكل بكلامه والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم وتمكنه في البحث والنظر حتى تبرم من الاشتغال بالعلوم العرية (3) عن المعاملة وتفكر في العاقبة وما يجري وينفع في الآخرة فابتدأ بصحبة الفارمذي (4) وأخذ منه استفتاح الطريقة وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل واستدامة الأذكار والجد والاجتهاد طلبا للنجاة إلى أن جاز تلك العقاب وتكلف تلك المشاق وما يحصل على ما كان يطلبه من مقصود ثم حكى أنه راجع العلوم وخاض في الفنون وعاود الجد والاجتهاد في كتب العلوم الدقيقة والتقى بأربابها حتى انفتح له أبوابها وبقي مدة في الوقائع وتكافؤ الأدلة وأطراف المسائل ثم حكى أنه فتح عليه باب من الخوف بحيث شغله عن كل شئ وحمله عن الإعراض عما سواه حتى سهل ذلك وهكذا هكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة وظهرت له الحقائق وصار ما كان نظن به ناموسا وتخلقا طبعا وتحققا وإن ذلك أثر السعادة المقدرة له من الله ثم سألناه عن كيفية ترعيته والخروج من بيته والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور فقال معتذرا عنه ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة وقد حق (5) علي أن أبوح بالحق وأنطق به وأدعو إليه وكان صادقا في ذلك ثم ترك ذلك قبل أن يترك وعاد إلى بيته واتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاه للصوفية وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والعقود للتدريس بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة إلى أن أصابه غير وضن الأيام به على أهل عصره فنقله الله إلى كريم جواره بعد مقاساة أنواع من القصد والمناوأة من الخصوم والسعي به إلى
(٢٠٣)