درجته لا يصفي نظره إلى الغزالي سترا (1) لإنافته عليه في سرعة (2) العبادة وقوة الطبع ولا يطيب له تصديه للتصانيف وإن كان منتسبا إليه كما لا يخفي من طباع البشر لكنه يظهر التبجح به والاعتداد بمكانه ظاهرا خلاف ما يضمره (3) ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام فخرج من نيسابور وصار إلى المعسكر واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول وأقبل عليه الصاحب لعلو درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته وجري عبارته وكانت تلك الحضرة محط (4) رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء (5) فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللد ومناظرة الفحول ومناقرة الكبار فظهر اسمه في الآفاق وارتفق بذلك أكمل الارتفاق حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد للقيام بالتدريس بالمدرسة الميمونية النظامية بها فصار إليها وأعجب الكل بتدريسه ومناظرته وما لقي مثل نفسه وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق ثم نظر في علم الأصول وكان قد أحكمها فصنف فيها تصانيف وحرر (6) المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف وسبك الخلاف فحرر فيه أيضا تصانيف وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كان يغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة فانقلب الأمر من وجه آخر وظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة وممارسة الكتب المصنفة فيها طريق التزهد والتأله وترك الحشمة وطرح ما نال من الدرجة والاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة فخرج عما كان فيه وقصد بيت الله تعالى وحج ثم دخل الشام وأقام في تلك الديار قريبا من عشر سنين يطوف ويزور المشاهد المعظمة وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها مثل " إحياء علوم الدين " والكتب المختصرة مثل " الأربعين " وغيرها من التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل وتهذيب المعاش فانقلب شيطان الرعونة وطلب الرياسة والجاه والتخلق بالأخلاق الذميمة (7) إلى سكون النفس وكرم الأخلاق والفراغ عن الرسوم والترغيبات والتزيي بزي الصالحين وقصر الأمل
(٢٠١)