قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين دليلا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه، وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه، ووجه كون مذهب مالك: أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، هو أن القرآن العظيم دال عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالما من المعارض من كتاب أو سنة، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى: هدي لا أضحية، هو ما قدمناه موضحا لأن قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فكلوا منها) * فيه معنى: أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاة وركبانا لحكم. منها: شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله: * (على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) *، عند ذبحها تقربا إلى الله، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج، حتى يأتوا مشاة وركبانا، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي: أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية، إلى إتيانهم مشاة وركبانا من كل فج عميق. فالآية ظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه: (أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه) فلا تنهض به الحجة، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات، وأن ذلك البقر هدي واجب، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها: هدي قران، سواء قلنا إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة، كما قال به بعضهم: وأكثر الروايات ليس فيها لفظ: ضحى، بل فيها: أهدى، وفيها: ذبح عن نسائه وفيها: نحر عن نسائه فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى: هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة، وهدي قران: بالنسبة إليها، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة، التي لا نزاع فيها، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك، والحديث ليس فيه حجة عليه.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن